كتب: مصطفى نصار
مفاهيمية النكسة وأبعادها…رؤية عملية
يختلف مفهوم النكسة من دولة لأخرى بحسب عدة أبعاد متنوعة قد تخل أو تربك أو تنعزل عن المجتمع بصفة غير مباشرة، وربما تخالف المتوقع وتأتي كآخر نسمة ريح تذهب بورقة التوت الأخيرة، فيدخل الجميع في أزمة كارثية تقصف بعمر الدولة أو القطر، أو حتى تقذف بمستقبلها كاملًا في مهب الريح. ولعل هذا ما جعل المفهوم ملغزًا ومحيرًا ومثيرًا للجدل عالميًا بحسب أشد المثاليين على رأسهم المفكر الأنجليزي المحافظ “جون أرنولد” في كتابه التاريخ يصف دورات التاريخ بالاضطرابات المستمرة التي تجعل الطبيعة نفسها في حالة تموج دائم وتدافع مستمر لا يجعلها على حالة ثابتة مطلقًا.
ومع ذلك، توجد عدة أسس للحكم أو السير في نكسة واقعية، أو ما يسميه “أرنولد تونييي” مقدمات الكارثة، وله توابع كارثية تمس أبسط تفاصيل الحياة، بل إنه توغل بشدة لداخل الأسر الصغيرة مرورًا بالمصانع الكبيرة؛ مما يؤثر على منظومات أخرى تزعزع أسس ومبادئ عرفية وأخلاقية عامة.
وتحدد مدى قوة أو ضعف النكسة بعدة محاور، منها الاهتمام بالبعدين الديني أو الروحي والمادي مشتملًا على آلية انتاج الأفكار، أو بتعبير مؤرخ الحضارات القديمة “غاي ميتدلون” التكاملية الحضارية، التي تبعث الإبداع والتقدم والترقي بصورة منتظمة متوازنة تتيح للجميع الترقي والتطور، ومن ثم يتيح للمجتمع بصفة عامة الوصول لأعلى مستويات ممكنة، ولا يرتبط الأمر بمدى تصلف وغطرسة السياسة فقط، بل الاجتماع ونفسية الدولة الجماعية والفردية لها ركائز محورية في ذلك، كما يؤكد المؤرخ “ديفيد إليس” في كتاب “1798 عتبة العالم الحديث”، حينما شرح أسباب وعوامل تحول العالم الحديث، الذي بطبيعة الأمر يحمل العبء الأكبر والتفسير الأكثر دقة في تشكيل عالمنا المعاصر بما يؤثر على المفهوم ومعانيه الحقيقة، أو تعيد تشكل وتكوين حالة جديدة من إعادة التركيب بحيث تخالف المرسوم له في الأذهان.
ولا تستثنى مصر من ذلك لإنها تتميز كما يشير مؤرخ الحضارات “ول ديورانت” بمركزيتها في العالم منذ الحقب اليونانية والرومانية، وزادت أهيمتها حتى احتلها نابليون بوناربت، واستغلها محمد علي باشا وصارت أحد مراكز تصدير النوابغ بسبب علمائها ومتعلميها، حتى بلغ بالأمر تعلم اليابان مننا في عهد الامبراطور مينغ.
وأكلمت مصر مسيرتها العلمية والتاريخية والسياسية على المستوى الاقليمي والدولي غير أنها مرت ب 4 نكسات قزمت مصر وجعلها مدمرة ومهشمة تمامًا لا تتوقف تداعياتها على مجرد الحاضر بل تتمدد خطيًا وزمنيًا شاملة بذلك الجميع ولكن بدرجات متفاوتة ومتنوعة. المشتبه، والجدير بالذكر تشابه ردة فعل المفعول به أو الواقع عليه الكوارث والأزمات حتى قال “المقزيزي” و”ابن خلدون” عن تلك الظاهرة إنها تسمى بالعبودية المترسخة المخربة، جاعلًا بذلك عدم الاكتراث غير بالذات أو النجاة الفردية، مما يحتم على المجتمع “المتسضعف ” يرتب أوراقه للتكيف والتحايل أو الرقص واللعب مع الكوارث، أو كما أكد أستاذ التاريخ والاجتماع المصري “عبد الباسط عبد المعطي”، بتعاقب تلك المحاولات ويضمنها في كتاب أطلق عليه “تراث العبيد في مصر المعاصرة”. فالعملية والقراءة المهنية في تلك المحاولات تستهدف بالأساس إيجاد حلول أو على أقل وصفًا انتاج منظومة للأفكار العملية المنجزة والعميقة.
تعرف أيضا علي…اقتصاد الحرب في مصر وتبعاته على الحياة
بين الشدة المستنصرية وحقبة أول سيء الذكر في التاريخ الحديث…أزمة الديكتاتورية المتوحشة بين امرأة ورجل مستبدين
خلفت الشدة المستنصرية، نسبة للخليفة الفاطمي المستنصر بالله، توابع كارثية بدأت منذ حقبة والده “الظاهر لإعزاز دين الله”، الذي اشترى جارية نوبية اسمها “رَصد” من تاجر يهودي اسمه “أبي سعد التستري”، وبعد مكوث في قصر الخليفة، فضلها على بقية الجواري، وتزوجها بعد مدة طويلة من الدلال المشبوب بالعواطف، وأنجبت له المستنصر بالله عقب سنتين فقط من مجيئها لقصر الخليفة، وشاءت الأقدار بغير ما شاءه الخليفة الظاهر، ومات عقب إنجاب المستنصر بخمس سنوات، مما أدى لتغير قواعد الحكم مدمرة بعدها كل شيء آخر على مدار نصف قرن انتهت بمجاعة جارفة هربوا على إثرها للشام.
قبل هروبها للشام، بدأت حكمها بسلسلة من الأزمات المفتعلة مع الوزير الوصي على الملك حتى قزمت مهامه وأولوياته، حتى بلغت جرأتها وغطرستها أنها صارت صاحبة الأمر والنهي في البلاد، وبلغ بها انعدام الثقة وسيطرة نظرية المؤامرة عليها، جندت مرتزقة ضمن الجيش آنذاك على مختلف بقاع الإقليم، فوزعت القوات المغاربية في الشمال والبربرية في الوسط والدلتا، والسودانيين في الجنوب والنوبة؛ مما كون حالة من الانفصال والانفصام والتشظي مكونة حالة من القبيلة داخل الدولة، واضعًا احتمالات للصراع بينهما عند وقوع أقرب فتنة، وهو ما نجده جليًا عند اشتعال الفتن السياسية والاقتصادية.
وما زاد وطأتها، جفاف النيل الذي استمر لسبعة أعوام، ترتب وعليها فوضى وفتنة سياسية ومجاعة، جعلت ابن خلكان في والمقريزي نفسه يصفها بالمحنة الكبرى، واصلة لأكل المصريين لحوم بعضهم أحياء، وما إن لم يجدوا مأكلًا فكانوا يأكلون أضعفهم قدرة وأرذلهم قوة كالمعاقين وذوي العاهات والإصابات، وشربوا دماء بعضهم بديلًا عن الماء. ونال بيت الخليفة الكثير من آثار الشدة، حتى هرب أهله على الشام وعكا وحيفا.
وما وجد من حل أنسب من الاستعانة بالكفاءات؛ فاستعان بوالي عكا بدر الدين الجمالي الذي أجرى إصلاحات سريعة بتوحيد الصف في الداخل والقضاء على توزيع المرتزقة التي أنشأتهم رصد، مما أدى لنهضة ملحوظة على المستوى السياسي والعسكري، بجانب الإصلاحات الزراعية والاقتصادية.
واستمرت تلك الإصلاحات بعدة إجراءات ثورية وجذرية في البنية الهيكلية، فأنشا آلية توزيع أجور عادلة تحقق العدل ودعم الفقراء عبر توزيع آلية صارمة تعطي للمعدم قطعة فضية تسمى “اللظى”، ويكتب عليها عبارة الله ضامن أي ضمن حقوق الفقراء والمساكين، ليعطيه لأي دكان بضائع ويكيل له مخزون الأسرة الشهري حتى لو كان فردًا. ولعل هذا ما جعل الدكتور “حسام الدين محمد” و”أيمن فؤاد سيد” في كتاب “الدولة الفاطمية رؤية مختلفة” أن رؤية الدولة الفاطمية كدولة يرتبط منهجيًا بمراحل صعود وهبوط الدول وليست مجرد حكام برغم محوريتهم في الأحداث وتغيير مجرياتها.
ومن “رصد” ل”عباس حلمي”، من الجدير بالذكر أن كليهما يتمتع بشخصية صلبة لا تعرف لها سمات طيبة بل أن عباس حلمي ابن طوسون الولد الثاني لمحمد علي باشا عقب ابراهيم باشا كان فاشلًا غبيًا جهولًا، وعومل بقسوة من أفراد عائلته جميعًا بدءًا من جده الذي بدأ بتعيينه محافظ على مدينة الغربية، ومن ثم أثبت فشله فألحقه بالجيش فكان مسالمًا غير مؤثر لخوض الصراعات والحروب، وقد تغيرت الأقدار بموت أبوه وعمه طوسون وابراهيم، واجدًا نفسه ملكًا لمصر بالصدفة عام 1848م.
وما إن تولى حكم مصر ، حتى أذاق الشعب الويلات بكافة أنواعها وتفاصيلها؛ فبنى لهم الطرق والكباري، ومتع نفسه بالقصور، وهو من أوائل الحكام الذين سمحوا بالتدخل الأجنبي الفج، لدرجة تأكيده الجازم للسير “توماس ماكينز” أنه سيورث الحكم لابنه حتى يضمن مصالحهم في إكمال قناة السويس واستمرار عمل السكك الحديدية. وإكمالًا على تلك الإجراءات الأنانية والفاشلة، فقد ألغى التعليم الابتدائي والتوجيهي، ونفى رفاعة الطهطاوي وقام بإغلاق المدارس الحسينية والألسن، وفصل طبقيًا بين الأغنياء والفقراء حتى سيطرت عليه أوهام المؤامرة وخرافات التواطؤ، مقلصًا صلاحيات والتزامات عائلته الحاكمة، فحدد إقامة خالته نازلي كاظم باشا.
وانتهت حياته نهاية مستحقة به وبأعماله مُغتالًا على يد أحد غلمانه عام 1854م.
من العبودية المتدينة للعبودية المتدنية …الشعب على منوال العبيد الصامتين
تحول التدين لدى الشعب المصري من أصل لهوامش لتداعب أرواحهم الفارغة وتوحد لديهم المعاني المتناقضة كمعنيين الصبر والخنوع وحيلة أن ليس بأيديهم الكثير لفعله، ليقلب بدوره أُس التدين الشعبي لتدني شعبوي مقيت لا يصبر الفرد إلا على تحمل المزيد من العبودية والإذلال، وكله فداء حياته الخربة والتالفة.
فقد تخطينا حالة الفراغ الروحي والسياسي لتتجذر في داخلنا عبودية نفسية وشعورية، مستبدلين الذي هو أدنى بأجود الخيارات وأصلحهم؛ مما ساهم بتبلد مشاعرنا وعواطفنا تجاه الآخر الذي لم يتجاوز حدود بيتنا، لأن ببساطة أمره لا يعني للآخرين شيئًا قط، محولًا التبلد وعقلية الوهن لأسلوب حياة تحت حجج متهافتة واهية ليس فيها من العقل والدين إلا أراذله، وكثير من الظلم والإحجاف ومحاولة خداع الضمير والذات.
ولا يتوقف العبد بالإنحدار لهذه المرحلة، لأن النقطة النهائية للثبات تنتهي بثلاث خيارات إما الاستمرار أو العزلة أو التمركز حول الذات، أو البعدية الواحدة وتلك البعدية هي التي شرحها بنقدية أحد مؤسسي مدرسة فرانكفورت “هربرت ماكوزه” في كتابه الرائع “الإنسان ذو البعد الواحد”، استطرد “ماكوزه” أن السوق يحبب نظام الاسترقاق في الذات، ليستريح الإنسان “الغربي” في نهاية اليوم بمشاهدة فيلم أو تجرع كأسًا من الخمر أو النبيذ.
غير ذلك، عندما يندمج الوهن والخوف والعبودية والبعد الواحد، يتطرق الإنسان لوسائل التصفية الذاتية أو التفريغ السلبي أو الايجابي أو المقاومة الخفية كما أسماها جاسوس المخابرات الأمريكية “جون سكوت”، لينتهي الأمر بصحوة أصيلة لكن بعد فوات الأوان، أو بعد الإفاقة من الغفلة بحد تعبير “محمد جلال كشك” في كتابه “كلمتي للمغفلين”.