مقالات

علم الاجتماع في مواجهة المجتمع المصري…شمولية القهر والتفاهة ومثلث الدمار سيشعل فتيل المجتمع

كتب: مصطفى نصار

بين قانون الفراغ الخلدوني والعدل الإلهي التيمي وصناعة العبيد الرشدية: خلطة بناء الجماعات وتفككها

 

 

حينما وضع ابن خلدون مقدمته الشهيرة في العمران البشري عرف أنه يكتب كما قال ليوضح أمور المجتمعات البشرية في أحوالها وفي انحدارها وتطورها؛ فوضع نظرية لقانون العصبية وأنواع الدول والمجتمعات كذلك. ولم يسعى بذلك فحسب لإضفاء العوامل الهدامة لأي مجتمع حقيقي، وأثبت بذلك نظرته عبر تاريخ مديد من الأمم الغابرة والماضية.

 

فيضع ابن خلدون قانون العصبية كعقد اجتماعي قوي يبني أوصال المجتمع ويشد أزره ويقوي شوكته بقوله أن هذا القانون يقوي قيم العرب الصارمة والقوية المليئة بالأخلاقيات مثل الشهامة والمروءة والعدل والاجتماع لاسترداد الحقوق في حالة أخذ الحاكم أو الخليفة لها عنوة أو ما يسمي اليوم بالسطو أو الانقلاب على السلطة، وبذلك ترد للمجتمع هيبته وقوته عبر أجيال عديدة، ويحقق التوازن بين قوة المجتمع ووجوده الواقعي على أرض ترسم فيها السياسات لصالحه ليس ضده.

 

مما لا شك فيه أن عوامل النهضة والاستقرار الخلدونية متناقضة تمام التناقض مع بينة المجتمع المصري اليوم؛ لأن المجتمع أخلاقياته مستمدة من جذرين لا علاقة لهما بأخلاق العرب ولا حتى بفرسان القرون الوسطى لما انتشر فيه من احتقان وتشظي وانشطار وتفشي الانحلال والانحطاط البديل نتيجة للظلم والاستبداد. فضلًا عن كل ذلك، فإن تأسيس دولة الهوى عنده يستلزمها حكم ظالم متغلب متجبر لا يعرف حدود الله ولا حتى شرف ومرءوة الجاهلية.

وقد أعاد المفكر الأندونسي وعالم الاجتماع الحضاري “السيد نقيب العطاس” صياغة الدول التى قسمها ابن خلدون في كتابه تطبيق ابن خلدون ل٤ دول، وهي دولة الشرع، والعقل، والهوي، والتدميرية؛ فالدولة الشرعية هي تلك الدولة التي تتبع فيها قواعد الشرعية والقرآن للحكم والسلطة، ويعتبرها “العطاس” من أنجح النماذج وأكثرها إشادة بالذكر لإن لم و لن يوجد أحد يعلم بأمور الناس ومكامنهم واجتياحاتهم أكثر من خالقهم، أما دولة الهوى فهي تلك الدولة التى لا حكم لها إلا هوى الحاكم و آليات حكمه تكون بلا معايير ولا ضوابط، وتتحول عند طغيان الظلم والقهر والاستبعاد للدولة التدميرية، و هي دولة تدمر الإنسان وتفككه بظلمها وكثرت جبايتها للأموال واستحقار الإنسان ونزعه لخلقه الإنسانية واعتباره كمفعول به في كافة أرجاء الحياة، وينصح في هذا الصدد بمقاومة تلك الدولة لأن السكوت عنها سيكلفك حياتك في الدنيا والآخرة، ستعجز حتى عن جواب أسئلة الحساب الآخروي بطريقة سليمة، وهدم الدنيا يكون بتأصيل لقانون الفراغ كما أسماه المفكر المغربي “كمال القصير”، ويذوب فيه الإنسان ليهدم عمرانه البشري بالأكمل ويسقط في غياهب الظلمات في حياة أشبه بحياة البهائم.

 

تعرف أيضا علي…بناء حجر الأساس للحياة التصورية: عمق استخدام الفلسفة يأتي من طبيعة العقل

 

ولعل أهم ما نظر فيه ابن خلدون، وفقًا للعطاس، أسباب التفاهة والسفاهة والبذخ، وقال إنها أعراض نابعة عن التقليد الأعمى والإعجاب الشديد من المغلوب حضاريًا للغالب؛ فبناءً على نص العبارة الشهيرة في المقدمة “المغلوب مولع أبد الدهر بالغالب فيقلده في لبسه و حلته و زيه”، فيشوه المغلوب هكذا ذهنيًا واجتماعيًا؛ فينتج مجتمعًا معلولًا. وهو الأطروحة الأساسية الذي ركز عليها “مالك بن نبي” حينما أجاب على سؤالي الفراغ والاقتصاد في كتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.

 

 

والاختلاف الجوهري بين “ابن تيمية” و”ابن خلدون” أن مرجعية العدل والظلم متشابهة مع اختلاف الحلول والإجابات؛ فابن تيمية يتمتع بمنطقية عالية ورزانة لفظية واجابات يقينية، تنهي أي جدل عقيم قد ينشب من قبل الفلسفة وعلم العمران والتاريخ، فاجاباته ثبوت معظم الأوقات، ويتضمن أسباب التناحر والتشاطر والاحتقان إبان انحطاط الأمة في وقت الزحف المغولي.

 

فوضع بذلك نظرية للعدل الإلهي ونواتجه المنطقية، فيفصل بين العدل كقيمة وبناء اجتماعي وحكم أخلاقي للسياسة، فصنف ذلك في كتابيه السياسة الشرعية والنبوات؛ فأعجب بذلك الفيلسوف واللاهوتي “جون هوفر” في كتابه نظرية العدل الإلهي عند ابن تيمية، واعتبرها من أكمل النظريات السياسية والقيمية في التاريخ الإسلامي ككل.

 

زيادة عما سبق، فقد اعتبر مثله مثل ابن خلدون أن الدول العادلة لا يشترط لها إيمانها لتحقق قيمتها تلك، كما لا يتصل انهيار الدول بالإسلام كشرط أساسي، أي القيم العقلية المطلقة لا ترتبط كما تطبيقها بدينها ولا أهلها، بل ويزيد مستقيًا من القرآن أن الدولة يولى عليها من صبغة وأخلاق أهل البلد نفسه. فيتحدد بمنتهى الوضوح على تلك الأسس التيمية قيام ونهوض الدولة من انحدارها وتدهورها المدوي.

 

ولا يخالفهما الفقيه والقاضي “الوليد ابن رشد” شارح فلسفة أرسطو عن ابن تيمية وابن خلدون في جوهرية الظلم والعدل والعقل في بناء المجتمعات، لكنهما لم يحددا ماهية العبودية واستمرارها بها كوقود للظلم سواء كان لمنفعة أو هوى، وربط بينها وديمومة الجبروت والجبر؛ فقال بمنتهى الوضوح أن الخلل المثبط للتغيير والمعطل لسنة التدافع العبودية لغير الله سواء لهوى أو شهوة أو حاكم متغلب.

 

واتفق الثلاثة على عدم وجوب واستحرام سكوت الفقير أو المحروم للسكوت والخنوع مستندين على مئات الأحاديث والحوادث المؤسفة أبسطها مقولة الصحابي الجليل “أبي ذر الغفاري” – رحمه الله ـ أنه يسعتجب من من لا يجد قوت يومه أن يشهر سيفه في وجه من جوعه وانتهكه، لما لها من تأثير عميق على حياته اليومية وتحويلها لكابوس حي.

 

الرقصة الأخيرة مع المجتمع…رسم علل انحدار المجتمع المصري وتحوله للسفاهة والقهر

 

 

عندما قام الفيلسوف الفرنسي “بيار بوديور” بوضع كتابه المدهش الهيمنة الذكورية، قسم القهر لنوعين أحدهما رمزي والآخر عملي:

والرمزي هو الأثير الذي يتعلمه الفرد من أول المرحلة الابتدائية حتى الجامعة؛ فيرزع في نفسه قيم الطواعية والاستعباد النفسي، ويزيد عالم الاجتماع ليؤكد أن وضع الدول الاستبدادية أسوء وضعًا وأنكى موقفًا؛ فهي لا تعتبر الإنسان ذا أهيمة من الأصل وتفعل به الأفاعيل من إفقار وتهميش وخوف وحرمان من الخدمات الأساسية، فتحوله من إنسان الإسلام للإنسان المطوع بتعبير الدكتور “مصطفى حجازي” في كتابه التخلف الاجتماعي مدخل لسيكولوجة الإنسان المقهور.

فوفقًا لحجازي، الإنسان المقهور ليس لديه خيارات إلا محدودة ليفرغ فيها قهره وإحساسه الدائم بالنقص والدونية النفسية، غير أنه مفقر ومجهل لا يسعى إلا على غزيرة البقاء ولذلك ينكب على التفاهة انكبابًا شديدًا.

عطفًا على ما سبق، لا ينتج عن ذلك التفريغ والانكباب على التفاهات إلا لمزيد من التشوهات والتحولات للمفاهيم الأساسية؛ فتضحى المذلة اعتمادًا على النفس والمسؤولية تدهور والصدح بالحق ذهاب لغياهب السجون، والكثير من هذا الفراغ المجرف للإنسان، الذي يضحى بحياته لحياة تالفة كما أشار البروفسور “تود سلون”.

 

ويضاف لتلف وعطب وتفاهة الحياة مثلث الدمار لأي دول وهما الفقر والمرض والجهل، مع التزامن مع إرهاصات البقايا الاستعمارية في دول ما بعد الاستقلالات الصورية، من توريث القمع الأمية السياسية والاجتماعية والحفاظ على أمن إسرائيل كما أوضح أستاذ التاريخ في جامعة تنديل “سيبرات فورت” عندما أكدت الدول العظمى في مؤتمر مارس عام 1920 الذي شكل الشرق الأوسط الحديث في عشرة أيام، وكذلك الاستعمار القانوني بتشريعات “عبد الرزاق السنهوري” المخزية والمضللة والمضخمة من دور السلطة في المجتمع.

 

لينتهى المطاف بسؤال طرحه عالم السياسة المصري “نزيه الأيوبي”، “متى يزال عمى المجتمع حتى يزال تضخيم الدول العربية من دون جدوى؟”

 

فالحل واضح وضوح الشمس ويتمثل في الثورة النفسية بهدم القابلية للاستعمار التي وضعها المفكر الجزائري “بمالك بن نبي” في كتابه مشكلة الثقافة، فعندما تنزع تلك القابلية، ينزع العفن من القلوب وتسترد صحتها وثقتها في الله وحده للإصلاح بعد الهدم التام.

 

تابعنا أيضا علي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock