كتبت : هدى جبر
طوفان الأقصى : التساؤلات المستمرة حول الرد الإيراني
يدرك القادة الإيرانيون أن المواجهة الحقيقية ليست مع “إسرائيل”، بل مع النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهي مواجهة لا تنحصر في منطقة غرب آسيا، بل أوسع من ذلك، وتمتد إلى ساحات متعددة في العالم.
سيطر الترقب والتساؤل على المتابعين العرب لتداعيات عملية “طوفان الأقصى” المستمرة حتى الآن إثر الاستهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق وما حملته من رسائل عالية التهديد في تجاوزها الخطوط الحمر في مسار الصراع المستمر مع الكيان منذ تأسيسه عام 1948، وخصوصاً باستشهاد خيرة قادة الحرس الثوري الإيراني على أرض تعدّ جزءاً من الأراضي الإيرانية وفقاً للقانون الدولي واتفاقيات جنيف .
عدا عن كونها استمراراً للرسائل الموجهة إلى دمشق التي تتعاطى مع الوجود الإيراني في سوريا باعتباره صمام أمان في وجه الاجتياح الغربي المستمر لسوريا منذ منتصف شهر مارس 2011.
تعرف أيضاً علي..وزارة التموين : انخفاض سعر الدقيق خلال الايام القادمة
وسادت حالة من الشكوك المتعاظمة بشأن الرد الإيراني بعنوان: هل يحصل أم لا؟ وإذا ما حصل، فمتى؟ وأين سيتم ذلك؟ وهل يكون بحجم الجريمة الإسرائيلية أم سيكون محدوداً بعنوان حفظ ماء الوجه؟ إلى حين حصول الرد الإيراني الواسع والعنيف المتجاوز لكل التوقعات التي سادت قبل حصوله، على الرغم من التعاطي الإيراني الواضح مع أخطر حدث منذ السابع من أكتوبر، وما صدر عن مرشد الثورة الإيرانية من تصريحات واضحة ومتتابعة عن الخطأ الكبير الذي ارتكبه الكيان باستهدافه المباشر للقنصلية الإيرانية والتأكيد على تدفعيه الثمن .
إضافة إلى وضوح كلمة السيد حسن نصر الله بوصفه الحدث باعتباره مفصلياً في تاريخ الصراع مع النظام الغربي على ساحة فلسطين المحتلة، الذي يختزل برمزيّته وموقعيته الصراع الدولي، فإن البعض تعاطى مع الرد من موقع التشكيك والاتهام.
ينبع هذا النمط من الشكوك من مجموعة عوامل طبعت الواقع العربي بشكل عام، والسوري بشكل خاص. أول العوامل هو الاختلاف في أنماط التفكير بين العرب والإيرانيين .
إذ يغلب على أنماط التفكير العربي الاندفاع والحَميَّة من جهة، وسرعة اتخاذ المواقف تبعاً للخلفيات الاجتماعية والثقافية وسيطرة الهويات الفرعية ما قبل الوطنية على أنماط التفكير من جهة ثانية.
الأمر لا ينحصر في الشريحة العامة الكبرى، بل يتمظهر على مستوى ما يُعتبر نخباً سياسية، على عكس العقل السياسي الإيراني الذي يتعاطى مع الأحداث الجِسام بعقل بارد يُقلِّب الأمور من كل النواحي ويدرس كل الاحتمالات والنتائج المترتبة على أي خطوة يُقدم عليها.
وينبع العامل الثاني من تراكم الشكوك في الوسط العربي منذ ثورة فلسطين 1936 وحرب النكبة 1948 ومجمل الحروب التي تلتها مع الكيان، وتحول النظام العربي إلى رديف لبقاء الكيان، وما أفرز ذلك من إحباطات تلت أغلب التحركات العسكرية، فألقى بظلال الشك على العقل العربي بشكل عام في تعاطيه مع مسار الصراع مع الكيان، بما في ذلك قوى المقاومة التي تسنمت رايتها بعد عام 1982.
ويرتبط العامل الثالث بعدم فهم الاستراتيجية الإيرانية ومعها بقية قوى المقاومة التي تسعى لبناء نظام إقليمي خالٍ من الكيان، يكون فيه لإيران دور إقليمي كبير عبر بوابة الصراع مع الكيان وعودة فلسطين لأهلها.
تحقيق هذا الأمر يعتمد بشكل أساسي على ما أسميه “عملية الدفاع المتقدم”، إذ تعتمد على الثبات في المواجهة مع النظام الغربي واستنزافه بعناد شديد وفقاً لعملية طويلة المدى، مهما كانت الخسائر، إلى أن ينكفئ محدثاً فراغاً تملأه قوى المقاومة المتشاركة مع إيران بمشروع استقلال منطقة غرب آسيا.
هذا الأمر واضح في تجربة المقاومة في جنوب لبنان والعراق واليمن وفلسطين وفي سوريا، التي استطاعت إحداث تغيير حقيقي في الجغرافيا السياسية لمنطقة غرب آسيا، فتحولت إلى رقم صعب لا يمكن تجاوزه. وقد تكون عملية الرد العسكري الإيراني المباشر كنتيجة من نتائج عملية “طوفان الأقصى” بمنزلة تتويج لها، وكلا العمليتين لا ينفصل عن بعضه بعضاً في تشكيل واقع إقليمي جديد سيتولد عنه فراغ سيملأ الساحات الموحدة في الصراع، ولمصلحة شعوب المنطقة ومستقبلها السياسي والاقتصادي، ويدفع بالنظام الغربي إلى الإقرار بالواقع الجديد مع استمرار محاولاته لتفريغ ما تم إنجازه سياسياً.
تعرف أيضاً علي..السيسي ورئيس الاستخبارات الروسية يبحثان الأوضاع الإقليمية
يدرك القادة الإيرانيون أن المواجهة الحقيقية ليست مع “إسرائيل”، بل مع النظام الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهي مواجهة لا تنحصر في منطقة غرب آسيا، بل أوسع من ذلك، وتمتد إلى ساحات متعددة في العالم، إن كان في الساحة الأوكرانية بين روسيا وحلف الناتو، وفي جنوب وشرق آسيا بين الصين والولايات المتحدة، وفي أفريقيا بين دول الساحل الغربي وفرنسا العضو في حلف الناتو، وواقع النظام الغربي لا يتحمل الهزيمة في هذه المرحلة بما قد يدفع به إلى اتخاذ خطوات متوحشة وفقاً لمقولة أنطونيو غرامشي: “في اللحظة بين القديم الذي يموت والجديد الذي لم يولد تظهر الوحوش”، وهذا ما دفع الإيرانيين، ومعهم شركاؤهم من قوى المقاومة، إلى تهيئة الشروط الإقليمية والدولية لنجاح الرد بأكبر إنجاز ممكن، من دون الوصول إلى اندلاع حرب كبرى مدمرة على مستوى كامل منطقة غرب آسيا.
عملية الردّ بدأت من الناحية العملية بشكل تدريجي ومتصاعد بدءاً من استخدام العامل النفسي الضاغط على الكيان والدفع به لإثارة القلق بين القادة الإسرائيليين وضمن المجتمع الصهيوني، والاعتماد على عنصر الزمن عبر استمرار عمليات المقاومة في غزة التي أثبتت العجز الإسرائيلي بعد أكثر من نصف عام على شن الحرب، إضافة إلى تصاعد عمليات المقاومة في لبنان باستنزافها للقبة الحديدية، ثم أتت عملية الهجوم على سفينة الشحن الإسرائيلية MSC ARIES” قرب مضيق هرمز لتحمل رسالة إلى النظام الغربي بشكل عام، وللولايات المتحدة بشكل خاص، بإمكانية التأثير في الاقتصاد العالمي الذي لا يتحمل هزة كبيرة.
استغرقت عمليات تهيئة الأجواء الإيرانية الداخلية والأجواء الإقليمية والدولية 13 يوماً بدراسات معمقة لمجلس الأمن القومي الإيراني لكل الخيارات المتاحة بالحد الأقصى، وكل الاحتمالات التي ستنتج من العملية العسكرية الواسعة لأول اختبار مباشر في مواجهة الكيان بعد سنوات طويلة من الصبر الاستراتيجي، فكان الرد متجاوزاً لكل التوقعات التي وضعتها كبرى المواقع الغربية، رغم التهديدات والإغراءات التي سبقت عملية الرد لمنعها.
تعرف أيضاً علي..وزير الخارجية : اطلاق النار ما زال مستمراً في غزة
على الرغم من تهديدات النظام الغربي لمنع إيران من الرد المباشر، فإنه يتعاطى الآن مع الحدث المفصلي لاحتواء نتائجه بمنع “إسرائيل” من القيام برد عسكري وإيقاف تصعيد الردود المتبادلة خشية الانزلاق نحو حرب إقليمية كبرى لا تُعرف حدودها وتوسعها نحو العالمية، وهو الآن في وضع الباحث عن إطار إقليمي يكبح المزيد من التقدم الدفاعي لمحور المقاومة الذي يؤدي دور بيضة القبان في الصراع على مستقبل النظام الدولي.
ويبدو من الواضح أنه بدأ يوقن محدودية خياراته في تحقيق إنجاز عسكري في غزة وبقية ساحات المقاومة في غرب آسيا، وأن ذروة طموحاته وصلت إلى نهايتها، ولا بد له من أن يتعاطى الواقع الجديد بغاية تقليل الخسائر، بالذهاب نحو هدنة طويلة جداً تؤمن الاستقرار في منطقة متفجرة بالصراعات البينية والداخلية، ونجاحه في ذلك يتوقف على الاعتراف بمحورية قوى المقاومة في رسم مستقبل منطقة غرب آسيا.