مقالات

تاريخ مضطرب مليء بالطوعية…السودان من الاستقلال للحرب الأهلية

كتب: مصطفى نصار

انفصال الانقسامات التافهة…قصة انفصال السودان عن مصر

 

لطالما كانت السودان ومصر دولة واحدة كبيرة المعالم متنوعة زاخرة بشعبيها وتقاليدهما ومنظوماتهم الاجتماعية وتراثهم الحضاري، سواء على المستوى المصري أو السوداني، لكن الانفصال حدث بطريقة سخيفة ومضحكة على اختلافات تافهة تحولت لانقسامات سياسية ترجمت على أرض الواقع لانفصال جغرافي من السودان.

 

بدايةً، بدأت الانقسامات مع إنقلاب 23 يوليو 1952 عندما تولى محمد نجيب الرئاسة ليكون واجهة شعبية أنيقة، لكنه سرعان ما كشف ذلك وأكد في خلال اجتماعه الأخير مع الزمرة الفاسدة التي لها الفضل الأول والأخير في كوارث أهمها انفصال السودان ونكسة 1967 التي امتدادتها مستمرة معنا حتى اللحظة ، وبنفس العقلية التي أدارت غرفة عمليات المخابرات العامة بقيادة “صلاح نصر” أو انشغال الجيش بالسياسة والاقتصاد، زيادة على ذلك الزج بعشرات الآلاف في السجون والمعتقلات مثل المفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي من أمثال “عبد القادر عودة” و”سيد قطب” و”عبد الحليم خفاجي” والكثيرين غيرهم؛ مما حول طبيعة الدولة لما يشبه دول الموز أو كما قال “محمد دويدار” رئيس تحرير جريدة الجمهور المصري “لقد استبدلنا الملك بعشرة ملوك”، وحكم عليه ناصر بالسجن المؤبد في محكمة عسكرية لا استئناف بها.

وقد علم “اسماعيل الأزهري” القائد والزعيم السوداني ورئيس الحزب القومي الفيدرالي ذلك الموضوع باعتقال محمد نجيب فأرسل له عبد الناصر صلاح نصر ليوضح له أن اعتقال نجيب جاء كنتيجة طبيعية على اعتراضه على انفصال السودان، وبالطبع عرض عليه شراكة استراتيجية في مجالي الأسلحة والدفاع والأغذية، ولم يقتنع الأزهري بما قاله نصر، ليس فقط لتهافته وسطحيته ولكن أيضًا لعلمه أن نجيب قد تربى في السودان معظم طفولته وتعلق بأمه أيما تعلق، فكيف من تربى وتعلق بشيء أن يطالب برميه وإقصائه؟!

 

وقد تأكد الأزهري من كذب نصر عقب عجزهم الظاهر والواضح للعيان لدفاعهم عن أراضيهم في العدوان الثلاثي عام 1956، متأكدًا بذلك من عدم جديتهم في حكم مصر وسيرهم نحو الهاوية بالتدريج.

حاول صلاح نصر إقناعه أن ناصر هو من ضغط على القوى الاستعمارية ليرحلوا عن مصر لكن بلا فائدة، فالأزهري رغم عفويته وبساطته فقد كان خريجًا للجامعة الأمريكية في بيروت التى أخرجت لنا فطاحل العلم وعباقرة المعرفة.

 

 

وقد انفصلت السودان عن مصر لمحاولات فاشلة وخلافات تافهة ناجمة عن تحجر أدمغة وعناد فارغ من قمعيين بحق أبدعوا بأدمغتهم الكوارث والمصائب باعتبار حتمية الحق بالاستيلاء المسلح عليه، أو كما عبر المؤرخ الأمريكي الشهير “مالكوم كير” أن مصر في عهد ناصر وقعت في حرب باردة عربية من سياسته، ومن ضمن الدول التي وقعت فيها للأسف السودان، وانفصلت في 1 يناير 1957م.

 

 

جعل إسماعيل الأزهري بحداثة تجربته في السودان سياسيًا واجتماعيا في حالة ركود إثر الاستقلال، لكن هذا الركود ما تحول لاختلافات بين الأحزاب المعارضة والسلطة؛ لتنتهي مسيرة اسماعيل الأزهري ومحمد ماجد بانقلاب الجنرال إبراهيم عبود بعد أقل من عام على استقلال السودان؛ فكان استقلالًا ناقصًا.

 

تعرف أيضا علي…دماء منسية…الحرب فى السودان فى ظل التعتيم الإعلامي 

رسوخ دوامة الانقلابات…مآلات الخراب البطيء والديمومة التخريبة من عبود حتى سوار الذهب

 

 

تولى إسماعيل الأزهري بالفعل الحكم لمدة عام فلم يرتكب إلا إجراءات وإصلاحات طفيفة في الاقتصاد والمرافق العامة، فأصدر قوانين الاستقرار والاستثمار فانتهى بإصدار الجنيه السوداني فكان قمة الإصلاح الاقتصادي، غير بناءه للمصانع الخدمية للموارد المختلفة، وانتعشت التنمية انتعاشة طفيفة، ولكن الأحوال شهدت تخبطًا ملحوظًا كان معتادًا من الدول حديثة الاستقلال أن تشهده، والاستبداد بدأ توغله بانقلاب الجنرال الأول في السودان في يونيو 1958م، فغضب الشعب بخفية ملحوظة على الأزهري لإنه كان محبوبًا وذا سمعة حسنة بين الشعب حتى يومنا هذا.

 

 

وتولى عبود مقاليد السلطة في السودان من 1958 ل 1964 أي بمعدل ٦ سنوات، وفعل في السودانين الأعاجيب من ارتفاع أسعار و زيادة نسبة الدين الخارجي والداخلي والبطالة؛ فتجمعت عوامل الاحتقان جميعها لتقوم أول ثورة شعبية في السودان ضد أكثر من انقلابين لما عانت منه السودان من دوامة انقلابات تصل ل20 انقلابًا عسكريًا معظهم إما غير معلوم غير للمتخصصين أو منسيًا أو رميى في مزابل التاريخ كما انقلاب إبراهيم عبود وجعفر النميري وعمر البشير.

 

 

وعليه، تولى بعدها السر الخليفة حسن في نوفمبر 1964، حتى تمكن من محو آثار توابع عبود الكارثية على السودانيين؛ فركز على المرافق الخدمية وتحسينها المستقر التى رفعها لمصاف الاستقرار، فمكث في المنصب لعامين حتى سلمها مجددًا لاسماعيل الأزهري الذي أكمل بعده مسيرة الإصلاح، لكن لم يحالفه الحظ كذلك ومكث عامين حتى قاد جعفر النميري أكثر القادة العسكرين وحشية واستبدادًا انقلابه في 1968م.

 

 

والشعب في هذا الصدد مثله مثل كافة الشعوب العربية آنذاك لا تصحو إلا بالكوارث، حتى سمى الدكتور “جلال أمين” هذا العصر الممتد من الخمسينيات حتى بداية الألفينات بعصر الجماهير الغفيرة، وهو وصف دقيق يلازم وجود غسيل الأدمغة المكثف، ولعل هذا ما جعل المؤرخ والعالم الباكستاني المعروف “أبو الأعلى المودودي” يؤكد بحزمه ويقينه في كتابه كيف تطبق الإسلام إلي أن المسلمين المستبد بهم لا يستطيعوا العيش بغير تحكم من الغير.

 

 

وتولى “النميري” من 1968 حتى عام 1979، وفي هذه الأعوام ذاق السودانيون ويلات الاستبداد السياسي من ظلم وقهر وإفقار.

 

ومن الجدير بالذكر وصول نسب الفقر لمعدلات غير مسبوقة بلغت 45% وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي عام 1970م، ليتكرر سينايور ثورة 1964 في ثورة 1979 على مستوى أكبر وأعمق بلغت حشودها عشرات الآلاف من السودانيين، وسقط النميري وتولى القائد “عبد الرحمن سوار الذهب” بانقلاب أبيض دون أن يخسر البلاد.

 

 

وأصلح سوار الذهب البلاد واهتم بالتنمية وتحديدًا تنشيط الموانئ مثل بورسودان، ونقل معظم السودانيين من خط الفقر للطبقات المتوسطة وعاشوا في بحبوبة مستقرة وواضحة حتى ترك الحكم طواعية كما وعد القوى السياسية في عام 1983م.

 

 

قصة عمر البشير من دافور حتى الحرب الأهلية…الدعم السريع بصفتهم بارتزان جدد

 

في كتابه نظرية البارتزان، يخبرنا الفيلسوف والمنظر النازي “كارل شميت” عن الدعم السريع مفاهيميًا ويقول أنها جماعات خارج القانون أُدمجت تحت مظلة القانون بدعوى حماية الدولة وخدمتها، وتخليصها من الغرباء الذين يهددون وجود الدولة واستقرارها الثابت.

 

 

ويمكن رؤية التطبيق العملي بوضوح في كيفية عمل الدعم السريع بدايةً من تكوينهم المتعثر والاستنائي الذي كون صدمة عند علماء السياسة والانثروبولوجيا، حتى كتب عنها “محمود ممداني” كتاب خصيصًا للمجازر الحاصلة فيها قال فيه بصريح العبارة أن الدعم السريع مثل المنقذين المنجون من براثن إخوانهم، الناجين وذلك لإقامة إبادة جماعية وشاملة في ظل دولة متجانسة وصل عدد القتلى فيها ل3 ملايين قتيل، والمصابين فيها ل800 ألف مصاب.

 

 

وبوجه عام، التشابه بين “البشير” و”حميدتي” يصل لحد التطابق في كون كليهما من المرتزقة الحقيقيين، والاختلاف فقط في ظروف النشأة وآلية الاستخدام عند تولية المنصب؛ فالبشير الذي حكم عام 1990 قاد انقلابًا مصطنعًا من الحركة الإسلامية بقيادة “حسن الهضيبي” أما “حميدتي” فنشأ نتيجة عدم رغبة “عمر البشير” في توريط بلاده في مزيد من العقوبات بعد تمرد قبائل دارفور الذين كانوا درجة ثالثة في الخدمات والمرافق، وأراد قمعهم مثل الفئران فسرب عليهم قبائل الجنجويد التي تحولت لجناح رسمي للمخابرات العامة اسمها قوات الدعم السريع، وذلك على غرار فاجنر الروسية.

 

والتخاذل والانقلاب السريع على من ولاه السلطة؛ فالبشير سجن قادة الحركات الإسلامية، وكذلك حميدتي تخلى عن البشير حينما علم أن الشعب السوداني قد سيطر على مقاليد الحكم بعد النجاح الأولي لثورته.

 

 

لكن كما يقول “ألكس دي وول” خبير القرن الإفريقي في كتابه “الثورة غير المكتملة” أن الثورة السودانية لم تكتمل لعدة أمور أهمها وأخطرها يكمن في عدم الفهم للطبيعة العسكرية المختلة للجنجويد باعتبارها آليات قتل مأمورة ليس أكثر من ذلك، غير افتقار الخبرة السياسية المطلوبة بمن يدفع ويحمي مصلحة الدول التي تدافع عنها لضمان تحقيق أكبر قدر منها، ويضاف عليها عامل الصراعات المتضاربة، وهذا سبب كفيل لفشل أي مفاوضات أو تسويات، بل إنه وصل بالطرفين إفشال أي محاولات قانونية سواء محلية أو دولية وآخرها عدم الإلتزام بقرارات وقف إطلاق النار الصادرة عن الأمم المتحدة.

 

تابعنا أيضا علي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock