مقالات

بناء حجر الأساس للحياة التصورية: عمق استخدام الفلسفة يأتي من طبيعة العقل

كتب: مصطفى نصار

 

ترسيخ قيم “إعادة صياغة الشخصية” قائمة على العبودية بالأساس

 

هاجم الإعلامي والمذيع المعروف “تامر أمين” تدريس مواد الفلسفة والعلوم الإنسانية في المرحلة الثانوية بالتحديد تحت ذريعة عدم جدواها و أنها ليست ذي أهمية كبرى في الحياة العملية، أو بحد تعبيره “مش بتأكل عيش”، ما يلفت النظر حقًا هنا إلغاء الدولة لتلك المواد ، و السبب أنها باتت ذات حمل على أولياء الأمور.

ويأتي الإلغاء لعدة أسباب أولها رغبة الدولة بتكوين المواطن العبد الذي لو وصلت بها الأمر ليعبدها من دون الله لمجرد أمرته لفعلتها و أوصلتله لها ، والأكثر إثارة للتساؤل في هذا الصدد جدوى تلك الخطوة في وقت تهتم به بقية الدول بالعلوم الإنسانية و الوعي الاجتماعي العام و البناء على أسس فكرية ثابتة.

عطفًا على ما سبق، فإن إلغائها ليس جديدًا في تاريخ الاستبداد و الاحتلالات المحلية ، فقد ألغت الدولة العثمانية في أنكى أوقات استبدادها كتب الكواكبي و كذلك طبقت المواضيع بالنسبة لكتب الشقيقين محمد و سيد قطب بل و قتلهما ، الكواكبي مسمومًا و سيد قطب معدومًا ظلمًا ، و قد بقى فكرهما متألقًا ساطعًا غير منطفئ

و لهذا تداوم الدولة الاستبدادية على مدار تاريخها ، كما يقول الدكتور حامد ربيع رحمه الله، على مدوامة زرع قيم الاستعباد و المهانة ، حتى و إن بات القرار في ظاهره الرحمة لكن في باطنه العذاب و الشقاء المرير.

ويزيد تلميذه الدكتور سيف الدين عبد الفتاح إسماعيل في كتابه الزحف غير المقدس تأميم الدين للدولة رغبة عارمة ووحشية في السيطرة حتى على الدين لم يمثله من خطر و تهديد عليها لرغبته في الصلاح و منع الظلم بينما الاستبداد ظلم مركب و معقد لا يزال إلا بتقديم تضحيات أكبر على فترات أطول كما ينبغي البدء في القضاء عليه سريعًا عن طريق الطرق المعروفة عبر التاريخ الإنساني كافة أو كما سيتوضح من خلال مقتطفات أهيمة الفلسفة التي ستورد من خلال السطور التالية ، و بالتالي يمكن فهم السياسة القائمة على “عسكرة”التعليم التي تهدف فقط لإخضاع المدرس و الطالب لأهداف قائمة فقط على السمع و الطاعة العمياء التي لا تعرف المناقشة إلا بالارتجال و “عدم تنظيم الأفكار”كما يقول الفيلسوف و مؤرخ الحروب جون كيغان أن جيوش العالم الحديث مصممة على طريقتين الأولى التنفيذ و الثانية الطاعة العمياء لتراتبية الهرم في البناء و الهيكل العسكرية.

ومن هنا، فلا ينبغي اعتبار الفلسفة باعتبارها عالة أو عبء على التعليم ، بل بالعكس الفلسفة تعني إعمال العقل المصحوب بالنقد و الوعي المتغول في أعماق التاريخ و الجغرافيا ، و هي كذلك طريقة منهجية لعمل العقل عبر تنشيط ملكاته و قيمه و تحليله العلمي ليبنى نظريات ينشأ على أكتافها الازدهار و التقدم لا على لقمة يصعب إيجادها!!.

وللفلسفة حيوية و ديمومة في بناء الاقتصاد و الحياة العملية؛ حيث قامت على بناء الملكات و القدرات التى تقدر على إكمال الحياة بشكل صحي و هادى لا مريض و منتحر بشكل مستمر ، أو بحد تعبير أستاذ علم الاقتصاد السياسي دردري مالكوسكي في كتابها تحسين الاقتصاديات الإنسانية أن الاقتصاد الصحي و الجيد يمكن الفرد من تحديد موضعه بشكل دقيق و جيد مما ينتج عليه خيرًا و رغدًا يجعله في بحبوبة مستمرة ، و مساواة و عدالة اقتصادية قائمة بالأصل على إعطاء الحقوق و مبادلتها بالواجبات.

“إعمال العقل سبيل رئيس لعدم وجود عصور وسطى إسلامية”: و كيف صنع العقل الإسلامي حضارته؟

 

لطالما ارتفعت مكانة العلم في الإسلام ، فقد تساوت مكانة طالب العلم مع مكانة الصالحين و الأنبياء لم يورثوا شئيًا إلا العلم النافع المصلح للأمم العالم بأحوالها، و وصى كذلك بإعمال العقل و إطلاق ملكاته عبر الإكثار على سبيل المثال لا الحصر من صيغ الاستفهام و الأمر من القراءة و النقد و التدبر و التفقه و التأمل في كل شيء بدء بآلاء الله الواسعة و المتعددة لغاية أحوال الأمم السابقة كلها.

وبناءً على هذا التوجيه النبوي والقرآني ، دأب المسلمين على إعمال العقل في كافة المجالات منذ الرعيل الأول من الصحابة و التابعين و من والهم في كافة المجالات فقد بنوا على إثرها حضارة لا مثيل لها في كافة المجالات على رأسها الفلسفة و المنطق و تحديدًا الجدل الفقهي و الكلامي.

ويذكر الدكتور أحمد وجيه أستاذ الفلسفة الإسلامية و محرر مركز مدارات للأبحاث و الدراسات ملاحظة طريفة للغاية مفادها أن نحل العقول أدى إلي اعتصارها للنهاية و ترك تراث غني و دسم للغاية نتيجة كثرة و تشعب الجدل بين الطوائف و الملل و النحل و المذاهب المختلفة من ابن تيمية و تلاميذه كالذهبي و ابن رجب و ابن القيم و تلاميذ المذهب العقلي مثل الفارابي و الكندي و ابن سينا ، بل تخطى بروفسير العلوم الإسلامية جورج مقدسي ذلك و أكد على أن نشأة الإنسانيات في الغرب أسست منهجيًا و علميًا على أنقاض الحضارة الإسلامية عبر عدة خطوات منهجية منها على سبيل المثال الابتعاث و تعلم اللغة العربية لمختلف الأوربين الذين كانوا يتطلعون لإفادة قارتهم الغارقة آنذاك بالحروب و المعششة بالجهل بفعل الدولة الثيوقراطبة الذي أعملت سيوفها و محاكمها تفتيشها الدموية في أعناق الشعب الواحدة حتى يقال أنه الإنجليز قتلوا الفرنسين طيلة عشرة أعوام بسبب شبهات بالطاعون!!

وعند الإكمال في التحفة الفنية البديعة المسماة بكتاب نشأة الإنسانيات لجورج مقدسي، من الملهم حقًا ذكره لرحلة الانتقال للعلوم الإنسانية من الشرق للغرب عبر رحلة شيقة جميلة ملئية بالعمق و الأصالة و الجمال في العلوم الإنسانية في الإسلام فهي علوم تفوق ثقافتنا الحالية القائمة بالدرجة الأولى أو الثانية على المادية ، لا على مبدأ السعى للمعرفة الذي انتهجته مختلف الحضارات و بأقصى جهدها الإسلامية.

وهذا الجهد دفع كبار الباحثين الغربين للاعتراف بفضل الإسلام و فلسفته على حضارتهم و كذلك الاعتراف بعدم وجود عصور وسطى إسلامية في كتب مثل هل توجد عصور وسطى إسلامية؟لتوماس باور و مارك جراهام في كتاب كيف صنع الإسلام العالم الحديث الذي قال فيه بصريح العبارة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر هذه قصة يجب أن تروى في ظل الهجوم على الإسلام تتعلق بكيفية صناعة الإسلام للعالم الحديث .

و هذه الصناعة أتت نتيجة أمرين أولهما التقليد و التعلم من علماء المسلمين في الجامعات و المساجد و ساحاتها العامة و ثانيهما الارتفاع و البناء على ما أسس مسبقًا ، أي عملية تفوق التلميذ على معلمه ، مثل تعلم البوصلة من الاسطرلاب المحدد التي صنعته مريم الاسطرلابية و أدوات الجراحة التي حدثها فقط الأوربيون من ابتكارات أبي القاسم الزهرواي و كذلك الأخوين راين والتر و وايض الذين طورا فكرة طائرة عباس بن فرناس ، و الكثير مما لو اكتفى بإحصائه لاحتاج مجلدات موسعية.

بوصلة صحيحة أدت لطغيان انهياري متسارع: قصة أوربا الحديثة مع الفلسفة

 

لطالما صدعنا بمسألة أوربا العقلانية التي قامت على فلسفة ديكارت و روسو و كانط و هيجل و ماركس و نيتشه و غيرهم الكثيرين ، هؤلاء الذين ابتكروا بخيالهم الفلسفي نظريات علمية و علوم و مفاهيم صححت أوربا و جعلتها رائدة في العديد من مجالاتها الحالية ، لكن قلبت بوصلتها الأخلاقية لاعتمادها الأصيل على العقل و العلم حتى أنهم ابتكروا أديان منبثقة عن هذه الرؤية .

ففي كتاب العقل و اللغة و المجتمع الفلسفة في العالم الواقعي ، ينتقد الفيلسوف المرموق في فلسفة العقل و اللغة جون سيرل تلك المعقولية التي أدت لتفتيت و تشرذم كثير من الرفاهيات و الصواب المتتمع به في الغرب ، لكن تلك المعقولية اختفت تمامًا في القرن ال٢٠ و ٢١ لعدة أمور أهمها تحقير العقل و المنطق و الأخلاق و المطلقات و التركيز فقط على أخلاق السوق و ما يحتاجه المال لتراكمه في سينايور مشابه لما سيواجهنا .

و لابد من عدم التبرير عند إيجاد المجتمع و الدولة مشروعهما لا يخدم ما يفيده و يخدم فقط ما يوفر له غزيزة البقاء ليفقد بحد تعبير الدكتور جمال نصار بوصلته الموجهة و يفقد مرونته و روحه المرحة و الحية لمجرد نسيان أن الأخلاق و الفلسفة و المنطق أسس من الحياة اليومية و أدوات رئيسة لإكمال اليوم ليس فقط العمل و تضخيم الذات و الفردية ، بهذا اختزلت أوربا في آلة حقيرة تصدر الجهل و الانحطاط الأخلاقي . و بحد وصف “مايكل سيرستيفنز” الآلة المطلقة في الجهل.

تعرف أيضًا على: الاستثمار في العقول…ركيزة لبناء الأمم في ضوء الشريعة الإسلامية

و تحول هذا الجهل أتى نتيجة تصديق جامح و إيمان رومانسي حقيقي بقوة العلم و صلابته ، تلك الصلابة التي تحولت لسيولة تامة ، و بنية الثورات العلمية الخاصة بتوماس كون تحولت لتأليه العلم و العمل، وهذا التأليه مثل حالة فريدة من الإرهاب و الاستبداد حتى وصل باستاذ نظرية المعرفة المرموق هارولد بروان في كتاب الادراك و النظرية و الالتزام بالاعتراف بأن الإدراك عل بعدة مبادئ جديدة منها الإيمان بالعقلنة المطلقة للعلم كما نجد في فلسفة ماريو بونجي و كارل بوبر ، لكن يترك هذا سؤال لم يغلق حتى الآن متعلق بنا أيضًا “ألعلم وحده يصنع مالًا و كيف يصنع و ماذا لو طغى العلم على الربح أو العكس ؟”ليجد العلم نفسه قد تحول لغابة كبيرة تنقسم بين رابحين و خاسرين و بينهم زمرة كبيرة يحاولون النجاة و البقاء.

تابعنا أيضًا على: 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock