مقالات

الحرب الأهلية الخفية: الطبقية في مصر ممهد لاقتتال أهلي .

كتب:- مصطفى نصار

 

الإهمال و سحق الفقراء مطرقة تصدع الأمن المجتمعي:رؤية شميتة .

 

 

هناك عدة مشاهد يربطها فكرة واحدة تتمثل في ظاهرة متجذرة في أي مجتمع بنسبة منطقية ، لكنها استفسحلت في المجتمع المصري مؤخرًا بأبعادها المختلفة و المتنوعة التي في مجملها تهدد الأمن القومي و المجتمعي بخلق الصدع و الانقسام الطبقي فصرنا في مجتمع ذا طبقتين فقط فقراء و أغنياء .

 

 

فمشهد حفلة الساحل الشمالي لفرقة شكون في منتجع سيلفر سلتلير على أنغام أغنية شيخ الثوار في الغناء الشيخ إمام إلا مشهد يدل على العبثية و التفريغ المستمر و المعهود من السلطة المفقرة فكريًا و إصلاحيًا ، و هو ما حدث بالفعل بتجلي في نموذج السجون في عهد جمال عبد الناصر و السادات ، حتى منعت الأغنية الثورية التي غناها هؤلاء الشباب شيد قصورك .

 

 

فتلك أغنية ثورية غناها الشيخ إمام و كتبها الشاعر أحمد فؤاد نجم الذي كان بطبيعته متمردًا عنيدًا ، و هي تؤكد على مستوى السياسة المجتمعية و الإدارية أن السلطة الحاكمة فصل طبقي و عنصري تعتمد اعتماد منهجية الإذلال و الإذعان للمجتمع، و ما رد فعل المجتمع إلا الركود و الثبات على عدة مبادئ مترسخة أهمها إدعاء قلة الحيلة عملًا بالقول الدارج “اعمل طهرك مداس تكسب كتير ، محدش خد من الكرامة حاجة”، و الأكثر إثارة للسخرية المريرة رد فعل الفنانين على سجن نجم و إمام من فرحة و غبطة لتعطيل السبوبة و الكسب من الغناء و التهزيج للسلطة .

 

 

و الحقيقة أن نجم كتب الأغنية حينما كان مسجونًا في عهد السادات مع نجم بعد مظاهرات الطلبة عام ١٩٧١ ، و سجنت زوجته كذلك الكاتبة صافيناز كاظم ، وولدت ابنتها التى سماتها نوارة الانتصار لميلادها في يوم ٨ أكتوبر مما اعتبرته بشارة و نوارة للنصر المؤرز التي عارضت من أجل تأخيره و سجنت ٣ مرات فقط في عهد السادات لمعارضتها إما لمبادرات السلام التي كبلت مصر أو لتأخير الحرب مع الصهاينة فخرجت مع الطلبة و الأستاذة و سجن منهم الكثير بنفس التهم المضمنة بتهديد الأمن القومي و تكدير السلم العام ، و هكذا احتكرت السلطة المنبثقة من دولة يونيو ١٩٥٢ سلمًا مجتمعيًا و أمنًا قوميًا لم ير منه إلا كل إرهاب و مصادرة فكرية بكافة أنواعها أبسطها الاعتقال و أعقدها منع الأعمال من النشر ، و يتزامن من ذلك عصير من أدلجة جماهرية عريضة حمقاء لتطويع المواطن و تعبيده ، و هذا ما اعترض عليه كارل شميت في كتابه مفهوم السياسي .

 

 

و برغم نازيته و فاشتيه ، فشميت وضح بتجلى أن السياسي من يهادن و يعرف عقليات الناس و يوقعهم بشباكه دون مكابدة أو خسارة كبيرة تكلفه شعبيته أو حياته ، و لا يكون هناك منفذًا للمعارضة إلا في سياق المنفعة العامة الشاملة التي تغطي كافة التيارات . و يفضل شميت حالة التأصيل القانوني لحالة الاستثناء التي يجعل فيها المواطن مجرد أداة لرأي واحد و توحيد كافة التيارات تحت مظلة واحدة ، لكنه عارض الفقر و الإفقار الممنهج لما كان له من توابع تكشف تبلور المجتمع كخصم لا حليف ، أو بصريح العبارة خصومة المجتمع و تقسيمه ممهد لتغيير حتمي بداياته موت سريري في النفسية و نهايته تغيير جذري في حالة أشبه بألبانيا و رومانيا و إيطاليا الفاشية ، و استعباد الأمر من مصر لوهم كبير في ظل الحالة الاقتصادية و الاجتماعية التي جعلتها على شفا هوة بركان .

 

تعرف أيضا علي…بناء حجر الأساس للحياة التصورية: عمق استخدام الفلسفة يأتي من طبيعة العقل

 

 

أغامبين و فتنة الإنسان الحرام :طبقية مصر الاقتصادية أنموذجًا :

 

 

عندما وضع الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين سلسلته المعنونة بالإنسان الحرام ، أراد بها تكثيف النقد لمفهوم الدولة الحداثية بشكل يقارب الفيلسوف الغنوصي والتر بنيامين الذي أنهى مؤلفاته بكتاب عن العنف ينتقد فيه عدم رد البديل المناسب للدولة للنازية . المقصد من هذه المقارنة تأكيد تحول الإنسان من صانع و فاعل للدولة لمجرد حيوان مستباح استباحة كلية ملئية بالخوف و الحنق المشجوب و الممزوج بالمعارضة الصامتة مع أخذ رد فعل حقيقي إن لزم الأمر.

 

 

و هذا في كتابه حالة الاستثناء الذي خصصه بالكامل لنقد الدولة كمفهوم شامل من حيث التأريخ القانوني و الاجتماعي لفترة النازية لكنه لم يعرج على الدول العربية قط ، و تحديدًا في الإنتاج وولادة الدولة العربية ذاتها ولادة معيوبة رديئة خدمت الاستعمار بزرعه للنخب الحاكمة و على رأسها الجيوش الحديثة بطريقة تقارب خطابات العصور الوسطى بحلة حصرية تتكثف فيها عوامل التقليد و المحاكاة بسيريالية لا تمت للواقع بصلة و إن لامست الواقع أجهزت عليه بصنوف و ألوان شتى من الدمار و الظلم لإنها دولة مستوردة من الأساس بمواطن مستباح أكثر من المواطن الأوربي ، و هذا ما عبر عنه أحد عاملي المصعد بمترو أنفاق المرج حينما كنت في طريقي للعودة لمنزلي “أنا ماشي جوا الحيط و مش نافع”.

 

 

و يرجع عدم جدوى السير و الإكمال للحياة الطبيعية لعدم توافق الدولة بصفتها حاكمًا دكتاتوريًا من القرون الوسطى كما أشار الدكتور عمار علي حسن من قبل ، لكن المواطن المفرغ المطوع من داخله يعلم جيدًا أن هناك خير و أمل قادم لا محالة . و يجهل في الوقت ذاته أن الأمل يعتمد على “ما بعد الفتنة”أي استصئال كل الجذور العميقة الخاصة بموانع حياته السليمة و الهادئة .

 

 

ولا يعني مصطلح الفتنة هنا بالضرورة الفوضى لإننا قد تخطينا تلك المرحلة منذ فترة بعيدة ، و إنما يدلل بذلك بالضرورة على الاستحالة لإكمال حق الحياة الفطري ، فتكسى الأجواء العامة بملامح مختلفة من السقوط و الانحدار و الإفقار و التصارع الممهد لحدوث اقتتال أهلى طبقي بين الطبقتين الغنية و الفقيرة . يتفق كلا من الفيلسوف جورجيو أغامبين في كتابه”فتنة الحرب الأهلية كنظام سياسي” و كذلك سينشيا ماليشربيش في كتابه “صعود الوحشية المنظمة “على أن سوء الوضع مع بيان الاستنفار ممهد عظيم و تربة خصبة لحدوث شتى أنواع العنف ، أو بحد تعبير الباحث في علوم الانثروبولوجيا مارسيل موس “العنف المنتظم “.

 

 

ولا يوجد دليل أبلغ من التوسع العمراني غير المدروس و المتجاهل تمام التجاهل لصوت مجتمع أغلبه لا يقدر على شراء وحدات يترواح سعرها بحسب ذكر باحثين في جامعتي أكسفورد و هايدلبرغ الألمانية ، الذين أكدوا أن الوحدات في الساحل سعرها يترواح من ١٠٠٠ إلي ٨٠٠٠ دولار أي ما يعادل مرتب شهري لأستاذ جامعة في أمريكا في بداية مهنته و مرتب ٤ شهور لوظيفة عامل مصنع أو جراج في ألمانيا !! ما أثر على النفسية العامة و سبب حالة من الاكتئاب العام مثلما ذكر تقرير نيويورك تايمز الأخير عن التعاسة و الكآبة من الأزمة الاقتصادية.

 

 

و هذا يخلق مستجدين أهمها عدم وجود الوعي اللازم للمواجهة و التضحية الكبيرة الذي كونها الفرد سواء بصمته أو بإدعائه عدم القدرة أو الغلبة على أمره ، و ما تلك الحجج إلا مسكن نفسي قوي لإكمال حياة يعلم جيدًا أن لن تضبط إلا بالهدم الكامل و التغيير طويل المدى كما فعلت غزة في ظل حربها الأخيرة للاحتلال ، فتلك أكبر دليل على أن الخوف و المعارضة الأمنة و الخفية و المشي”جوا الحيط” ما هي إلا أوهام لزيادة طبقات الجرابيع ثراء و المقهورين المنكوبين فقرًا و ذلًا .

 

 

المشاريع السكانية و الإصلاح المنشود :أكذوبة فصل عنصري يغذيها وهم التطور العمراني .

 

 

في كتابه المتميز قصة الاقتصاد المصري من ١٩٥٢ لعصر مبارك ، يشير الكاتب المصري خالد إكرام لمعضلة التغذية الخاطئة للاقتصاد المصري عبر الإجراءات الخاطئة المتمثلة في التركيز المكثف على المشاريع التي تخطف اللقطة دون أن يكون لها عائد حقيقي ، و على رأسها مدينة نصر و سجن العقرب و العاصمة الإدارية الجديدة و العالمين الجديدة.

 

 

فتلك المشاريع لا تفعل شئيًا غير تخصيب تربة الاحتقار و الفصل العنصري من السلطة التي تؤكد بذلك مقولة آفي شلايم في كتابه الجدار الحديدي ببناء جدران تفصل و تقصي و تستعبد المصري من الجو العام الذي يستفيد منها فقط ٥%من المصريين ، و لعل هذا ما جعل الفيلسوفة نويل مكافي في كتابها الخوف من السقوط السياسة و اللاوعي تربط بين السياسة بصفتها بعدًا اجتماعيًا متصل بنفسية المجتمع و بنيته على اختلافها ، و هشاشة المجتمع المصري ستجعله أمام خيارين لا ثالث لهما إما الهزيمة و الاستسلام للإبادة الصامتة أو المجابهة بشجاعة و إقدام لم توجد في التاريخ المصري منذ ٢٠٠عام أي حينما جاء نابليون بحملته الفرنسية على مصر، و يزاد على ضعف المجتمع عدم قدرته أو انعدامها على التحايل و المرواغة لإكمال الحياة اليومية و تحقيق الأساسيات . فبناء على ما سبق ، أصبحت البلد كما يقول الباحث ماجد مندور على شفا الهاوية .

 

تابعنا أيضا علي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock