كتب: مصطفى نصار
مثل إيكاروس الناجح: توضيح معايير الشباب للاحتجاج:
من المعلوم أن الشباب لهم دوافع بأغراض تتمتع بها لإصلاح أخطاء الكبار و الأجيال السابقة تحت مسميات الإصلاح والتجديد وإنقاذ ما يمكن إنقاذه -عمليًا- ومساعدة الكبار فيما لا يزال يعتقدون أنه خطأ أو اندفاع وطيش شبابي يفتقد الرشد والحكمة.
إنزلاق الشباب يأتي من دوافع نفسية، متصلة دائما بالحماس والتجارب وحب التضحية، فالتضحية بالنسبة لهم ثمن طبيعي فى المنظومة العطنة القائمة على الظلم والإستغلال والإبتذال فى جميع المجالات العامة.
ويستقبل الشباب النتائج بصدر رحب جاهز للمواجهة المباشرة مع خيار طريقه واعر، وآخره حلو، ليرون بعده نتاج خيارهم الحقيقي أمام أعينهم أو بتعبير “براتدند راسل” فى كتابه فن التفلسف، “أن شبابية التغيير تبدأ بالإندفاع وتنتهى بالتعديل”.
ولعل راسل يقصد التعديل للأفضل بطريقة تشمل عدلًا وإنصافًا للجميع.
ويندمج الدافع الرابع مع قابلية الشباب للتغيير ووضع كل شيء فى موضعه الحقيقي والواقعي، فلا ينافقون لمصلحة ولا يستلسمون لأهواء شخصية يحركها أخ كبير أو مجنون على رأس السلطة فى الأرجنتين على سبيل المثال، لما يمثله الأخ الكبير فى رواية ١٩٨٤ ل”جورج أورويل” من عقبة تمنعهم من تحقيق الإستقرار و تلبية لنداء ضمائرهم أولًا.
وفى دراسة موسعة لعالم النفس الأمريكي النقدي “تود سلون”، تؤكد عدم تأقلم الشباب على الوضع القائم status quo، إن ما كانت مأساوية فينقل الإبداع والعقل ليخرج من حيز الوضع القائم لحيز آخر أكثر شمولية وصلاحًا، أي أن سخط الشباب لن يقابل إلا بردة فعل سلبية فقط لتعاليهم الإيجابي وجرأتهم الدائرية لتتحول لرد فعل هدفه الأول والأخير إنهاء الوضع القائم.
من كوبري عباس لساحة جورج وانشطن…حينما يستجيب القدر للساعي الحق:
غنى المطرب الشعبي المعروف “أحمد عدوية” فى الثمانينات أغنيته الشهيرة عن كوبري عباس فى الإسكندرية للتعبير عن الازدحام وحركة الحياة عليه ولقاء الأحبة عليه، فهو مكان لتلاقي الأغراض والأهداف نظرًا لموقعه ومكانته الهامة، ولكن الوجه الذى يخفيه الكثيرون سواء عمدًا أو سهوًا تحركاته التاريخية.
فالتأثير التاريخي للكوبري الشهير يتمدد ويمتد لفراغات خاوية فى العقل الجمعي الحالي فى التعبير عن الغضب والرأي فى ظل الإنغلاق والاحتلالات خصوصًا الإنجليزي الذى نهب الدولة نهبًا منظمًا، وأذاق أهلها مر وعلقم الحرب العالمية الأولى حينما جندهم تجنيدًا إجباريًا ليحاربوا تحت التاج البريطاني.
تعرف أيضا علي…رؤية الإعدام والتضاؤل: الرؤية التاريخية للموت فى الغرب عبر التاريخ الإنساني
ولن يكون من قبيل المبالغة إن قلنا أن تاثيرها ومداها تخطى حاجز الربيع العربي فقط لإيمان الشباب العميق ببلدهم والأهم والأجدر من ذلك الإيمان كان ذلك الشعاع المضي الذي يسمى الإنتماء والرؤية؛ لأن إنسان بلا إنتماء أو أساس له يشعر بالغربة فى وسط أراضيه أو ناسه؛ فهو فقط يعترف بنفسه كما أكد “أنطونيو غراميش” حين قال نزع الإنتماء لا يساوره إلا نزع الإنسان فى مجتمعه.
فبدأت القصة فى أعقاب ثورة ١٩١٩ عندما نُفي سعد زغلول لسيشل ظنًا من الإنجليز أنهم يستطيعون فقط القضاء على المقاومة المسلحة ضدهم بنفي زعيم الوفد، لكن ما لا يقدروا تقديره خروج المصريين وتحديدًا الطلاب فقط لمجابتهم والطلب بعودة سعد زغلول من منفاه.
وفى أول احتجاج لهم، ملء الطلاب الميادين العامة الرئيسية من أول ميدان الإسماعيلية أو التحرير حاليًا حتى كوبري عباس بالإسكندرية، فى تعبير سماه الدكتور “أحمد عبد الله رزه” بتغيير ملموس، أو الدكتور المتخصص فى مصر الحديثة فلسطيني الأصل “هشام هيلارد” “حركة مزلزلة”.
واحتج أكثر من ٢٥٠٠ طالب فى الميدان الواحد، فى تعبير على مشاركة حقيقة مع بقية أطياف الشعب، ولفشل الإنجليز الواضح لجأوا للحركات الخبيثة؛ فاستخدموا الرصاص ضدهم فى القاهرة حتى سقط أول شهيد منهم “كامل محمد”، وغرق ٢٠٠ طالب فى إسكندرية نتيجة فتح الكوبري على مصرعيه أثناء سيرهم، ولذلك صار اليوم ٨ فبراير يومًا للطالب المصري شعبيًا منذ أكثر من قرن كامل من الزمن.
وترك الإنجليز الساحة السياسة للوفد جزئيًا فسمحوا ل”سعد زغلول” بتكوين الوزراة وتوليه منصب رئاسة الوزراء آنذاك، وكون سعد خصيصًا لهم لجنة بقيادة “عزيز أحمد” داخل البرلمان فعين أشد الطلبة معارضة للإنجليز فى تلك اللجنة نكاية فيهم وتأكيدًا على رسالة مفادها ثبات المبدأ وجرأة القول.
وفى عام ١٩٣٦، انطلقت الاجتجاحات مرة أخرى عندما وقعت مصر على إتفاقية تسمح بالإنجليز بإكمال احتلالها لمصر تحت مسمى براق وهو الحفاظ على مصالحها وحماية أقلياتها فى مصر.
فخرج الطلاب فى مظاهرة قوامها ١٠ آلاف طالب فى مختلف الميادين والشوارع فقط لإزالة التقييد والتكبيل بإلغاء المعاهدة المذلة. وكالعادة قتلت الطلاب من أجل أرض وطن لو علموا أنه سيكون هكذا لانتحروا.
ولذا، عدل الإنجليز المعاهدة لتكون فقط مرضية للطرفين ظاهريًا وليست لإحترام سيادة مصر أو حتى استجابة للضغوط الطلابية، مناقضة لما فعلوه سابقًا مع سعد زغلول والوفد مما ترتب عليه ركود كامل فى حركة السياسة والاقتصاد والمنظومة الاجتماعية.
من وجهة نظر الدكتور “محمد ممدوح حسن” فى كتاب الحركة الطلابية فى مصر ١٩١٩ : ١٩٦٧، من المدهش تحريك تلك المياه الراكدة الهادفة لاستمرار التبعية و لكن المعيب فى حقهم عدم إكمالهم لأهداف الطلاب السابقين منذ ١٩٥٢. فمنذ هذا العهد سادت الحركات نوعًا من السكون يمتزج بالجفاف المهين الواهن.
فبعدما نُكبت مصر فى العام ١٩٦٧، وساد البؤس واليأس وروح ما بعد الصدمة القاسية، تحرك الطلاب بعد النكسة بعام فى اجتحاجات شملت قوامها مئة ألف طالب منادية “احنا زي ما احنا يا فبراير”، وكادت أن تطيح بنظام عبد الناصر كافة لشدة الاشتباكات مع الشرطة، لدرجة استقالة “مصطفى الحناوي” قائد القوات الجوية بعدما رفض طلب جمال عبد الناصر بالضرب بالطيران فى أغسطس ١٩٦٨، وذلك فى حوار ٣ أبريل عام ١٩٩٧ بمناسبة مرور ٣٠ عام من النكسة المستمرة فى مجلة روزاليوسف.
وعقب انتصار حرب أكتوبر، خرج الرئيس الراحل “محمد أنور السادات” عقب انتفاضة الخبز ١٩٧٦ ليتحدث مع الطلاب، ليتفاجأ بحملة نقدية لاذعة منهم بجميع توجهاتهم مثل “الدكتور عبد المنعم عبد الفتوح” المنضم حديثًا لجماعة الإخوان المسلمين الذى وبخه السادات بشراسة، و”أحمد عبد الله رزه” الخبير السياسي الذى قرع السادات قرعًا لدرجة جعلت السادات يرفض مقابلته و سماه “المشاغب ذو الكوفية الحمراء”.
وفى عصر مبارك ، بات خروج الطلاب اعتياديًا وعاديًا مع كل عدوان من الاحتلال الإسرائيلي على غزة فى رد فعل اعتراضي سلمي ليؤكد له أن الشباب ما زال حيًا حيويًا، إلا أن الشباب توقف تمامًا وسادت عصور القهر والاستعباد الإجباري عقب ٣٠يونيو ٢٠١٣.
مما يطرح ويشكل ذلك علامات استفهام عديدة مفادها تغير حالة الشباب ونفسيته بين تفاهة وتمزق وفقدان بوصلة.
والأمر تكرر فى أمريكا فى أعقاب حرب فيتنام عام ١٩٦٨ حينما خرج الشباب بمظاهرات اجمالية بنص مليون طالب واشتبكوا مع الشرطة، مكونين قوة ضاغطة على دولتهم بذلك لوقف الحرب، وقد نجحوا نجاحًا باهرًا فى السيطرة على بلدتهم.
وكرر الطلاب اليوم كما فى فيتنام منذ أكثر من ٧٠ عام لإيقاف الحرب على غزة المكلومة الجريحة.
“نفس ممزقة تحتاج لنور يهديها” عن حالة الإنسداد الاستنائني
يفتقر الشباب اليوم لحالة من الثبات والمواجهة الظرفية التى تغني عن المرء وتعيده لدفة الصواب بأي طريقة تخرج عن المألوف دون اختراق الخطوط الحمراء الكبرى الدينية والعقدية.
فحياة الشباب المصري اليوم فى مجمل الأمر مزيج بين التفاهة والحزن والغصة، بين العجز والهشاشة النفسية والفردانية، لتشكل ذلك حياة تفتقد فيها الحاجيات الأساسية، ليدفعوا بذلك ثمن الأجيال السابقة التى تصفهم بعضهم بالتواكل وافتقاد المسؤولية والدلال.
والحقيقة أن هذا العجز سيشكل “حياة” التى استحقر القرآن الكريم وجودها بتمسك اليهود بها، ما بالكم بتمسك الشباب المسلمين بها تحت ذريعة الحياة صعبة والمصائب جمة والنتائج وخيمة ويكفي الإكتفاء بحياتنا.
وتلك الرؤية الحزينة البائسة ملئية بنوع من الكمد اليائس الذى ما إذا استدرج الأدباء كتبوا عنه لحله وفك ألغازه كما “الرافعي” فى رسائل الأحزان. ولعدم خروج الأمر عن مألوفه، يمتدح الغضب الحزين بأكثر من الحزن البائس لافتقاده الشرارة الممتدة التى ستشعل الطريق لهدم الباب الموصد بدلًا من الركون فى الظلمات.
ويرحج عالم الاجتماع الشهير “زيجمونت باومان” فى كتابه الخوف السائل و”تود سلون” فى كتابه حياة تالفة ورولو ماي فى كتابه بحث الإنسان عن نفسه أن تعالي المفاهيم و المصطلحات وانطفاء الوقود فى قلب الشباب يحوط بها الخوف من المجهول والمفقود واستسلامًا للأمر الواقع لافتقادهم البوصلة والطريق.