كتب: مصطفى نصار
أنثروبولجيا الرقص الشرقي…هناك دائمًا شيء يدفن ويسلع
حينما رقصت فاطمة الفتاة العشرينية بمفردها فى المنزل، رقصت لفترة قصيرة مخافة من أهلها الذين عودوها منذ الصغر أن الرقص والتعبير عن المشاعر حتى فى المنزل، لإنها امرأة مسلمة لا يجب أن تسلع نفسها وتتحول لقطعة لحم تتمايل يمينًا ويسارًا.
ويندرج هذا تحت ثقافة الخطأ؛ مما يسمح بتعميمه فيما بعد على نفسها خارج المنزل.
وهذا الأمر مضحك وشائع ويكون ثقافة الكبت والحبس للأنوثة بحق؛ لأن ببساطة من تكبت مشاعر الأنوثة ستجد أي مناسبة أو موضع للتنفيس والتعبير عن مشاعرها بداخلها حتى لو أندرجت تحت سياق النزوات لما تعانيه من أحتراق ذاتي فطري للتصرف فى المكان الوحيد المسموح به بالاستحمام به، وهذا ما عبر عنه الانثروبولوجي الشهير “دافيد لوبرتون” فى كتاب تجربة الألم بقوله أن الألم يربو من الكبت والحرمان الاجتماعي من ممارسة الأدوار الطبيعية للمرء.
على عكس ذلك، قام والدا الدكتورة “مي عامر” أستاذ الدراسات الثقافية فى جامعة القاهرة وصاحبة صالون “شخلعة لتعليم الرقص الشرقي”، لما واجهته من والديها من تشجيع وتحفيز وأن هذا تعبير عن المشاعر كالفرح أو التنفيس عن حادثة كالتحرش أو الاغتصاب أو الحزن من زوجها، فبدلًا من اللجوء لحلول تحفظ نفسها، تذهب للصالون لأن هناك دائمًا حكاية تستحق أن تُحكى وتعاش، فى تعبير عميق ونيق عن الانسياق للذة والنشوة واختفاء الثقافة لما تنعدم “الشخلعة” من الإيجابية والخير.
وتتعاقب النساء فى صالون “شخلعة” لتتراقص، وتمجده وسائل الإعلام كما لو أنه إنجاز وهدف عظيم كانت تلهث وراءه الفتيات بعد الزواج والعمل، والحقيقة أن هذا لا ينم إلا عن مملوكية وعبودية لمجرد بضع حركات وفتنة وملابس أنيقة، كما أشارت الفيلسوفة الأمريكية “كريستين سورمز” فى كتابها من سرق النسوية بقولها “انتقال المرأة للوضع النسوي تعبير صادم عن سرق ممنهجة للمرأة”. فتتحول المرأة من متحكم فى أفعالها لمستلب الإرادة تحركها عناصر الميكاج وحركات الرقص والملابس الواصفة ولا تنفك عنها إلا بعد موتها -لا قدر الله-.
والحقيقة أن تلك الظاهرة أدلجة صريحة للدين النسوي تحت مظلة الإسلام، فكما تشير الباحثة “لونا ريكور” فى كتابها عن ظاهرة أسمتها “سرقة الدين”، وهى عملية إزاحة تنتقل بها الشعائر والطقوس والمظاهر وحتى المشاعر لتغطي بشكل تام أو شبه كامل ليستبدل الإنسان بإنسان “متحكم به كمثل الروبوتات”. مما يطرح أسئلة حول أنثروبولجيا الحياء والخجل فى الحياة المعاصرة.
المفقود الموجود: الحياء بصفته وجهًا للحرية والإنصاف
فى الفيلم الوثائقي المعروف مستعبد، استعبد المفكرون صاحبي نظرية التصميم الذكي من المؤسسات العلمية المرموقة لمجرد إيمانهم بنظريتهم العميقة والمكتملة التى تقتضي بوجود خالق للكون الذى خلقه بأبهى وأروع صورة وأكثرها عمقًا، ولكن ما يلفت النظر هنا وقاحة أصحاب خرافة التطور، بقولهم لو أنهم سكتوا وخجلوا من نظرياتهم لما رُفضوا وتم اقصائهم من المؤسسات المرموقة.
يتعاقب أصحاب الآراء الشاذة والغريبة وغير المنطقية والعلمانية على مر السنين وبهم نفس الأمراض الفكرية المزمنة باتخاذهم الكشف الوقح والطرح المستفز لأفكارهم بغرض لفت الانتباه والحصول على أطياف من المجتمع يتوارثون فكرهم لزعزعة الهيبة والسلطة الدينية، واستبدالها بمبررات يقبلها ظاهر وسطح العقل لا عمقه وطبقاته المتعددة تحت ذريعة أن ذلك ما يتقبله ليسهل الاعتناق.
تعرف أيضا علي…من الدعشنة لمهاجمة الالتزام: تهجين تحليل فتيات التخرج لرقصهن
وعند التطرق للحياء والحشمة فى الحياة المعاصرة، نجد أنه هُمش عن عمد نتيجة عقود من استبدال المفاهيم وصك مفاهيم غريبة وأسلمتها للقضاء على الأعراف المحددة والمؤطرة للمجتمع؛ ليجد المجتمع نفسه أمام مسوخ وسموم وإشكاليات ستخبئ لنا الكثير فى المستقبل لما لها من قاعدة جماهرية عريضة للثقافة الغالبة، أو كما يشير الباحث الدكتور “إبراهيم السكران” فى سلطة الثقافة الغالبة أن الهزيمة المعنوية والنفسية يولدان أرضية حقيقة لتنامي واعتناق تلك الأفكار بكل سهولة ويسر.
ويأتي التاريخ بصفته سجلًا موسعًا للهجوم وتشنيع الحياء والحشمة باعتبارهما من الماضي، فبات يهل علينا على مدى ربع قرن فى الأفلام والمسلسلات منذ “الوردة الحمراء” مرورًا بأفلام طاهرات الوسط الإعلامي مثل فيلم “سوق المتعة” و”دانيدلا” ونهايةً بفيلم “ولاد رزق ٣” المليء بالانحرافات والبذاءات ليسرب فى اللاوعي أن الضحك لابد أن يقترن بالسباب والقذف، وأن الحرية فكرة مرتبطة فقط بالأعضاء الجنسية والملابس، والحب الذى تحول للبنة تمضغ دون معرفة أن المودة والرحمة أساسًا للحياء والحفاظ على البيت، وليست حرية ظهور الجسد، كما يقول عالم الاجتماع الأمريكي “كريس شيلنج”.
عطفًا على ما سبق، يضاف على الحرية والحياء قصر الكرامة والاستغلال والاستغفال على الفرد ورغباته فى طريق واضح لتأصيل الفردانية وسياسات الإذلال الممنهجة فى العملية التعليمية، لترسخ القهر بنوعيه الرمزي والفعلي كما أشار “بيير بودييو” من قبل ليشنغل الإنسان بنفسه ونطاقه الضيق، ويتمحور حول أهدافه الفردية؛ ليخرج فى كتابه القيم ثقافة النرجسية ل”كريستفو لاش” حينما أكد أن المجتمع الأمريكي منحط بسبب أنانيته واستغلاله وتوجهه الذى أنزل من نفسه لمرتبة أدنى من الحيوانات، تأكل وتشرب وتتكاثر وتعمل دون كلل أو ملل.
سيطرة الجهلية الحديثة على عقول المسلمين الأصليين وضعتهم فى مأزق جعل هدم حياتهم اليومية فرضًا لإكمالهم بشكل أكثر صحية وفطرية من الحياة الخالية من الحياء بشكل مفرط. واللافت للنظر أن الاستعمار قد مات من الحياء والحشمة مثل الجزائر مثلما ذكر “فرانز فانون” فى كتاب استعمار ميت.
أخشى عليها من أن تكفن هكذا: فكرة الحشمة باعتبارها ركيزة من منظومة القيم الإسلامية
تشكل الهوية حقيقة واضحة لا جدال فيها؛ إذ أنها تكون الشخصية وتشكلها بحسب عدة عوامل أكثرها أهيمة فى حالة الرقص هو الإسلام؛ لإنه محدد المعالم الشخصية والسلوكية للفرد، بل قل لمحيطه الصغير لما يترتب عليه من اختيارات صائبة والتى تتجاوز الرؤى المادية القاصرة، ولا تقدر تلك الرؤى على صمود طويل فتزول سريعًا لما فيها من وسائل هدم وتقويض سريعة بحق تمنعها من الثبات والصمود، وإذا تحول الحياء وكذلك الحشمة لمادة، فيلقرأ المرء على الدنيا كلها الفاتحة لإنها نذر بزوالها قريبًا.
وأول ما كشف عن مزايا الحياء هو الإمام “الحسن البصري” -رحمه الله تعالى- بصفته بابًا من أبواب الطهارة والعفة واحترام الله قبيل النفس، ومن ثمة الإقبال على الآخرة لإن صدقك هنا بحياءك وخجلك مرتبط بخوفك المقرب لك منه والمنتمي له. ليس الخوف هنا هلع أو تجنب أو اتقاءً شر، بل قرب ومحبة واتصال أبدي مع خالقك الأوحد والعزيز. فهو أرحم بك من والديك وأرفق بك من وفائك تجاه حيوان أليف، فاتقاءه عن اقتناع ويقين يثبت لك فى شغاف قلبك قوة ومنعة تفوق الجبال الرواسي.
ولك أن تتخيلي حديث فاطمة لأسماء بنت عميس -رضي الله عنهما- حينما حزنت فاطمة على صحابية متوفاة لمجرد كفن يصف جسدها و هى متوفاة وملفوفة به على خشبة النعش، فى آخر لحظة قبل دخولها قبرها. فلكم تخيل حياء وخوف الزهراء على حياء وحشمة متوفاة قبل حساب القبر وفتيات اليوم المميلات فى الحفلات والأفراح!!