عنقاء تبعث من جديد
كتبت: أسماء أشرف
وأخيرًا اليوم تنتهي حرب غاشمة استمرت لعام وثلاثة أشهر وأحد عشر يومًا، وفوقهم الكثير والكثير من لحظات الانتظار والترقب التي من فرط تلكؤها وبطئها تحسبها عقودًا لن تنتهي.
اليوم وبعد 469 يومًا، تضع الحرب أوزارها وتكف أذاها وبطشها عن مستضعفين اُستنزفت طاقاتهم وخارت معها القوى والبنيان، اليوم تنتهي الإبادة ويعود لبيته من هُجر قسرًا منه، اليوم يلتقي الأحبة؛ فاليوم هو آخر يوم من أيام الإبادة.
على مدار هذه الإبادة حدث ما لا يتصوره عقل بشري ولا يدركه إنسان عاقل؛ فعلى مدار عام وثلاثة أشهر قُتل الفلسطيني بكل أسلحة الدمار والقتل، قُتل بتأييد عالمي وبموافقة أممية، قُتل في ظل صمت مخذٍ من إخوانه وأشقاء عروبته، قُتل لإنه أبى الاستسلام ورفض ترك وطنه؛ فدافع بكل ما يملك حتى الرمق الأخير.
اليوم وبعد انتهاء هذه الإبادة التي لا تزال مستمرة لبضع ساعات إضافية حتى يأخذ المحتل قسطًا أكبر من التمعن في القتل والاستبداد وتطلعًا منه أن ينجز ما لم يستطع انجازه على مدار أشهر طويلة.
اليوم تعود الذاكرة لعام ونصف للوراء، فترى ذكريات تأبى إلا وأن تطفو على السطح، فتراها أمامك بكل تفاصيلها كما حدثت في لحظاتها الأولى، ترى أمامك ناجين من مجزرة وقصف يركدون حاملين أبناءهم على أعتاب مشفى مهدد هو الآخر بالقصف، فتضيق بهم الأرض رغم اتساعها ولا يجدوا مأوى سوى ركام منازلهم التي لم يكتفى المحتل بقصفها مرة، بل يعود ويقصفها مرارًا حتى يسويها بأرض جُرفت هي الأخرى وتساوت معها الأحلام بتراب لُطخ بدماء الأبرياء.
على مدار هذه الإبادة، شاهدنا من يُستهدف ويُقصف فقط لأنه يؤدي واجبه تجاه أبناء وطنه، فيداويهم ويسعفهم رغم ضعف الامكانات، يُقصف فقط لإنه ينقل صورة الإبادة فاضحًا معها عدوًا سادي تمادى في الظلم والتخريب وأضحى ينتشي بمناظر الدماء التي تُلطخ سترة صحفي أو رداء طبيب.
في هذه الإبادة قُتل من كان يصلي، وقتل من خرج يبحث لأطفاله عن طعام يسد به أنين بطونهم الصارخة جوعًا، قُتل أيضًا من نظر نحو السماء آملًا بطرد غذائي من إخوانه؛ فبعثوه له ولكن ليقتله!
في هذه الحرب تبخرت الأجساد وتفحمت، قُطعت الرؤوس والأطراف، وحُرق أهلنا في الخيام على مرأى ومسمع من العالم أجمع بالبث المباشر الحي.
في هذه الإبادة وُزنت أشلاء الشهداء بالكيلو جرامات لتُجمع جسدًا واحدًا وتدفن.
في هذه الإبادة شهد الفلسطيني كل أنواع الموت، فمات جوعًا وبردًا وخوفًا وألمًا وقهرًا، تُرك لينزف بالساعات لتنزف معه انسانيتنا ويموت كلاهما.
مات بردًا من نجا من القصف وهُجر قسرًا، كل صنوف الموت والفقد اجتمعت عليهم.
فيرى من يشاهد من بعيد أن من ذاق كل هذا الظلم بالتأكيد فقد آدميته وإيمانه بالدنيا وما فيها، ولكن على العكس تمامًا من هذا رأينا ناجين من القصف ومن بين الركام يهللون بالحمد ويستقبلون نبأ استشهاد ذويهم بالصبر والاحتساب، شاهدنا الجرحى يسكنون آلامهم بتلاوة القرآن، شاهدنا أطفالًا حاملين لكتاب الله حافظين له، رأيناهم يشدون بعضهم بعضًا ويساعدون بعضهم بعضًا، رأينا رجال غزة الصابرين سواءً أكانوا أطفالًا أم نساءً أم رجالًا كما هو العهد بهم.
رأيناهم مدافعين عن أنفسهم بأنفسهم، مستعينين بالله مشتبكين مع عدوهم من مسافة صفر، يكبدونه أعتى الخسائر، يطاردونه بأسلحة مصنعة يدويًا تحت حصار مطبق، فيصيبوا منه ويقتلوا ثائرين لدماء ذويهم.
رأينا منهم ما تتعجب له نواميس الكون؛ فرأيناهم يموتون ساجدين، مهللين فرحين، رأيناهم يموتوا صائمين، رأيناهم يقاتلون حتى الرمق الأخير، مدافعين عن الأمة جميعها حتى ولو بعصا.
واليوم بعد قهرهم للعدو وانتصارهم عليه، آن الأوان أن يستريحوا.
تعرف أيضًا على: ذكرى الطوفان الأولى
ضباب بعده نور
ضباب بعده نور، هذا بالضبط ما يمكن أن تشبه به هذه الإبادة، أن تسير لأشهر طوال ولمسافات أطول بين ضباب حالك لا تبصر معه خطواتك التى تخطيها، وفوق هذا يحفك الخطر من كل اتجاه، فمعالم الطريق ليست معبدة بل مليئة بالكثير والكثير من الفخاخ والحفر التى تأبى إلا وأن تسقط فيها، ولكنك على الرغم من ضعف الرؤية ووحشة الطريق ووحدتك فيه، تُصر على استكماله وتأبى الاستسلام؛ فتمضي تصارع كل أسباب الهلاك، وفي لحظة أخيرة ترى النور أمام ناظريك، بعيدًا لكنك تراه، فتسرع حتى تصل، ومن ثم أخيرًا تستريح.
هذا بالضبط ما مر به الفلسطيني على مدار عام وثلاثة أشهر، هذا بالضبط ما عايشه من ضعف امكانات وقلة حيلة، والكثير الكثير من الخذلان، هذا بالضبط ما عايشه من جوع وبرد وخوف وقهر، إلا إنه أبى التراجع والاستسلام، إلى أن وصل أخيرًا، وفي وصوله هذا عين الانتصار.