كتب: مصطفى نصار
منعًا من أن تكون نسيًا منسيًا وسط مسلسل من الانتهاكات للأقصى…حدوث الطوفان يأتي بأغراضه من اسمه
مر عام على عملية طوفان الأقصى المباركة التي شهدت فيها القضية الفلسطينية تحولًا جذريًا على كافة الأصعدة، ولعل أهمها وأوسعها وأجدرها هي المركزية التي عادت للقضية بعدما كان من المخطط لها أن تُدفن قيد النسيان بمنهجية مرتبة تهتم بجعل إسرائيل المركز وفلسطين التابع، مع تكثيف حملة الأسرلة الاجتماعية والسياسية والتعليمية لدى الشعوب العربية.
وبعيدًا عن تلك الخطط الخبيثة التي تنفذ من قبل البعض من أنظمة الاستعباد العربي، فحدوث الطوفان سابقه مناخ سياسي خامد وخامل، ويخنق في نفس الوقت القضية الفلسطينية بتكرار الانتهاكات والاعتداءات على المسجد الأقصى بمعدل سنوي يتراوح بين 120 ل400 اقتحام واعتداء سنوي، أي بمعدل من 3 ل4 اقتحامات شهريًا، وبالتأكيد هدف الصهاينة من تلك الاعتداءات تثبيت الأمور الواقعة والاستسلام للأمر لخوض تفاوضات حول بناء محيط ديني يهودي مثلما أشار الدكتور “إبراهيم البحراوي”، حتى يتحقق لهم أسطورة بناء الهيكل المزعوم.
غير أن بدء قطار التطبيع الرسمي في الوطن العربي قد زاد عن الحد وبلغ أقصاه عندما أعلنت الإمارات المتحددة تطبيعها المشؤوم مع الاحتلال الإسرائيلي شهر سبتمبر عام 2020، وبعدها حازت دولًا عربية عدة سمتها مثل المغرب والبحرين. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، وإنما روجت الإمارات للديانة الابراهيمية مستغلة مشاهير عرب معروفين بولائهم الكامل للاحتلال الإسرائيلي على رأسهم “نصير ياسين” الذي روج للإسلام الحداثي واللبيرالي الذين يتخففان من الأصول العقدية الصلبة على رأسها الجهاد وتعلم الدين وسلخه عن تنظيم أمورها الحياتية من سياسة واقتصاد واجتماع وما إلى ذلك من أسس.
وبلغت القضية الفلسطينية من التهيمش حد صدور تقارير صحفية تؤكد وتربط انسحاب القوى الغربية وانصراف المستبدين العرب بعدما انتهجوا سياسة التجويع والإفقار الممنهج والإبادة البطئية للتقرب من إسرائيل كما لو أنها إله يعبد أو بتعبير “بيري أندرسون” الإله المساند للسياسة.
بإلاضافة لعقد صفقة القرن المشبوهة التي كشف عنها الرئيس “عبد الفتاح السيسي” في يوليو 2017 أي قبيل 3 سنوات من إعلانها مؤكدًا أنها ”حل لقضية القرن”، وبذلك يعني نهاية القضية الفلسطينية للأبد ووضعها داخل الانعاش بهدف أن تكون نسيًا منسيًا لا تتذكر غير بمناسبات القصف الهمجي وفي الأدعية الخاصة بالصلوات.
غير ذلك، فإن القضية الفلسطينية كانت تعتبر في الغرب قضية هامشية لا يعبر عنها أحد، بل لا يعرفها أحد غير المتخصصين المحتكين بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالسياسة والعلاقات الدولية مثل “نورمان فليكاشتين” و”سارة روي” “إيلان بابيه” و”معين رباني”، فضلًا عن “نعوم تشومسكي” الذي أكد أكثر من مرة أن فلسطين ليس ذات شأن عند المواطن الأوروبي والأمريكي لعدم اهتمامه أو غسل دماغه بأكاذيب مركزة ومغلوطة عبر سنوات لتوضيح عدوانية ووحشية المقاومة والجماعات التابعة لها، وتصنيف داعش وحماس ضمن إطار أحادي التصنيف لا يفرق بين الإرهابي والمقاوم من أجل الحرية والكرامة.
وفي وسط هذا المناخ قام طوفان الأقصى ليثبت ويعيد مركزية القضية والمعاني المفقودة في حياتنا الاعتباطية الباردة كالصبر والصمود والإيمان و التدين والمقاومة، والأهم من ذلك ليسطر ملحمة من أكبر وأوسع ملاحم التاريخ الفلسطيني بأكمله.
ليلة كشف العمال…جرف عتيد التيار لأنظمة التطبيع العربي
بالإضافة لما كشفه الطوفان بما لا يدع مجالًا للشك عن الفشل الاستراتيجي والتكيتكي والأمني للاحتلال الإسرائيلي، فأسدل الستار كذلك عن الماهية السياسة الداعمة بشكل كامل وفج بانتهازية فائقة وفارقة، غير أنها في حقيقة الأمر أنظمة قائمة بالأساس على جذر صهيوني الأصل استبدادي الهوى وخدماته الأولى والأخيرة له.
ولعل التاريخ والقرائن التاريخية أصدق دليل وأبلغ حجة لإثبات تلك الواجهة والوجهة العملية التي أنشأت لأجلها الدول العربية بكافة أسلحتها وجيوشها فقط لتحقيق سلام مدمر ذاتيًا على غير الاستقرار والثبات الأوربي الذي جاء بعد حروب استمرت عقود قتل فيها آلاف البشر.
فقتل على الأقل ما بين مئة إلى مئتين ألف شخص في حرب الثلاثين عام ما بين 1638 ل1668م وفقًا لما ذكره الدكتور “إبراهيم الشاهين” في كتابه الرائع “تاريخ الثورات الأوروبية 1848″، وانتهت أجزاء المسلسل الأليم والدموي المنتهي بعقد صلح ويستفليا عام 1764، وإعلان قيام الدولة الحديثة.
أما بالنسبة للدول العربية فهي دول مستوردة تأسست في أعقاب الاستعمار وعقب سقوط الخلافة العثمانية فيما عدا عدة دول.
وللمفارقة، تتميز الدولة العربية منذ نشأتها بدعم الغرب وإسرائيل قبل حتى أن تُزرع في منطقتنا البائسة.
ففي كتاب “القاهرة 1920″، يروي لنا أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر “سيبراد فورت”، قصة نشأة الشرق الأوسط والخطة الخبيثة من لورانس العرب آنذاك بالتعاون مع الملك فؤاد، وبعدها بيومين من نهاية المؤتمر أعلن الانتداب البريطاني على فلسطين. وكل ذلك تم بإشراف ورعاية المملكة المصرية والاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، وكل ذلك شكل في عشرة أيام.
وفي المقابل، تزايد دعم الدول العربية مع قيام الجامعة العبرية ودعوة كبار المؤرخين والفلاسفة فاستجاب البعض منهم ورفض أغلبهم الفكرة من الأصل مثل “العقاد” و”إبراهيم مدكور” الذين رفضاها بدعوى أنها جامعة لإكمال المشروع الصهيوني.
وبالنسبة للأردن، فقصة إنشائها وظهورها باعتبارها دولة حديثة نشأت كأثر استعماري لحماية ظهر الكيان المحتل من الضربات الصاروخية مثلما ذكرت الوثائق البريطانية الخاصة بانتداب فلسطين. وإنما الموضوع تخطى ذلك للإجماع العلمي بين علماء السياسة والمؤرخين ككتاب “جوزيف مسعد” آثار استعمارية، وثلاثية الدكتور “عصام سخنيني” عن التاريخ الفلسطيني الأردني.
تعرف أيضا علي…ذكرى الطوفان الأولى
وعند القفز للحظة الراهنة، من المخزي والمهين انحياز بعض الدول العربية، وتحديدًا دول التطبيع، الذين زادوا نشاطهم التجاري، وكذلك أنقذوا الكيان من الإفلاس التجاري والانهيار الاقتصادي بعد الحصار البحري المفروض من جماعة أنصار الله الحوثية التي أغلقت الملاحة البحرية وهاجمت السفن التجارية التابعة للاحتلال الإسرائيلي مباشرةً أو المتوجهة للأراضي المحتلة.
ويعد ذلك التطبيع تناقض صارخ وصريح مع معاهدات السلام وليس فقط القضية الفلسطينية.
فمثّل الطوفان بهذه الصورة الجلية كشاف ضوء على التواطؤ العربي على القضية الفلسطينية، عملًا بالأهداف والمصالح الشخصية فقط لإبقاء الدول في الوضع الحالي ما يعرف باسم الوضع الراهن أو واقع الأمر status quo، لكن ما أغفلوه حقًا نهاية الدول نفسها والتى قد تأتي من الظروف المصنوعة بداخل البلاد التي يحكمونها، فيكونوا إما أمام انهيار بطيء، أو انتظار الحرب الشاملة التي ستكلفهم الكثير من التبعات والأزمات غير المتوقعة التي قد تأتي خطأ بطلقة صادرة عن أحد الأطراف المتحاربة سواء كانت حليفتهم أو ما يعرفونهم بالإرهابيين، غافلين أو متعمدين الإغفال والتكتم على حقيقة تغير العقيدة الخارجية للصهاينة من السلام المصلحي لسياسة “الكوبري المؤقت” أو السيطرة التامة للكيان المحتل عليهم.
ومما سبق يجدر ذكر العقيدة العسكرية الصهيونية القائلة بأن “العرب أعداء”، فالعقلية الصهيونية خبيثة وماكرة لأبعد الحدود؛ حفاظًا على وجودهم وخوفهم الدائم على لعنات التوراة والعقد الثامن ورحيلهم، فهم شعب في انهيار مثلما أشار الفيلسوف اليهودي “شمعون رافيدفيتش”.