كتب: مصطفى نصار
فقدان حد الكفاف: الجوع ملكًا فى غزة
فى تقرير صادر للأمم المتحدة، أكدت فيه أن غزة وتحديدًا شمالها تواجه مجاعة شديدة، واجهت المرحلة الأشد منها حينما أصبح الموتى من الأطفال بقدر نصف شهداء القصف يوميًا، ونتج عن ذلك بالتأكيد إحدى أكبر المجاعات وأكثرها وحشية وضراوة منذ الحرب العالمية الثانية.
ولا يكتفي التقرير بمجرد الاستطراد فى الأرقام فحسب للإعتماد والتوثيق المعتاد، بل إنه يخلص بنتائج هامة وعميقة أهمها مرأي من الجميع ومسموع من العميان قبيل المبصرين، أن غزة أصبحت بيئة غير صالحة للعيش Unliveable environment بحد ما وصفها التقرير.
ولقصة المجاعة أبعاد إنسانية عميقة فى مدى الانحطاط والسفول الأخلاقي الذى نراه فى الإلتزام من ناحية الصهاينة بمدى الإمعان الممنهج فى إذلال وتركيع الفلسطينين فقط لما يشعرون من دعم المقاومة وتأييدها المطلق من الفلسطينين، فاشتداد التأييد للمقاومة هزيمة للمحتل حتى مع تدمير الأرض تمامًا.
إن أزمة التجويع ممنهجة وممزوجة بالقهر والكمد والحزن، فكما يقال التجويع أقدم سلاح استخدامًا لأغراض عسكرية أو سياسية أو اجتماعية محددة أو وظيفية.
ولغزة تجارب غزيرة بشكل مؤلم وموجع، يكتفي فقط لنا الحرب الحالية التى بدأت بالفعل بموت ٣٠ طفلًا فى أخر مارس من العام الجاري.
فكما جعل “ألكسندر دوما” فى الكونت مونت دي كيسترو النبل درة تاج الصفات و”خوسيه ساراموجو” الخبث والبؤس فى العمى، فإن الجوع والنكسة والخيبات المستمرة ملوك الأرض فى غزة بطريقة تفوق أي لحظة فى التاريخ الحديث وحتى المعاصر فى تاريخ غزة نفسها.
مما يجدر ذكر التاريخ الأسود للتجويع لفهم الصورة الكلية والبانورامية وفهم أن التجويع والتركيع ما هو إلا آذان بإنتهاء الاستعمار.
“أكل اسبرطية يبدأ بالتجويع”: الوجه الأسود لليونان القديمة والعصور الوسطى
من أهم الصور الذهنية التى يُعمل على تثبيتها حول اليونان القديمة تصدير صورة الفلسفة اليونانية والرومانية بصفتها إعمالًا للعقل وبحثًا عن الحقيقة الفلسفية، دون ذكر واضح أو مفصل للمهازل التى حدثت بكامل العلم من الحكام القدماء لها، فى إشارة واضحة لغسل السمعة وإظهار الجانب الأخلاقي الإيجابي مثل أي حضارة منحطة أخلاقيًا تنظف قذاراتها بمسحة أخلاقية، مثلما عبر الفيلسوف الألماني “ألبرت اشتفيشز” فى كتابه فلسفة الحضارة.
وبالطبع لن تنس اليونان فى الحروب أخلاق الغابة التى طورت فى الحروب القديمة، ومنها التجويع وسياسية الأرض المحروقة التى نُفذت أول مرة مسجلة تاريخيًا هى تدمير إسبرطة عبر تجويعها عبر ١١عام متوالي (١٨١_١٧٠ق م)؛ ليقتل فيها معظم سكان المدينة جوعًا وإفقارًا.
فدلالة التجويع بينهم كانت نابعة من حقد ورغبة عارمة لاحتلالها ونهبها لتنضم رغمًا عنهم تحت لواء قلعة الفلسفة العريقة.
واستمرت السياسات بين ملوك العصور الوسطى لتكون دليلًا على التفكك والتشتت الذى غرقت فيه أوروبا لأسباب سخيفة تتعلق أحيانًا برغبة ملك بلد ما بزواج أميرة بلدة أخرى، فيجوع الشعب بصفتها وسيلة سياسية للابتزاز والإجبار.
وليس هناك عدد محدد لها لما فيها من كثرة محققة ووفرة غزيرة تشكل هيئة أخلاقيات حروب أوروبا التى طبقتها على سكان بيت المقدس فى الحروب الصليبية.
ومن العجائب ربطهم لتلك المجازر المتعددة والمعتادة بصور عادات وتقاليد البلدان الآخرى بحجة أنها ضارة أو لا يفهمون فيها بالقدر الكافي؛ فعاملوهم مثلما يعاملون الأوروبيين.
والدليل على ذلك هو حصارهم وتجويع لكنيس يهودي به ١١ ألف منهم يقيمون به شعائرهم الدينية، حتى كادوا أن يأكلوا بعضهم البعض، وعند تلك اللحظة، أحرقوهم أحياءً لإنفاذ ما تفننوا فيه من فنون الإذلال والإذعان وقلب الحقائق تحت شعار “إن لم تجد ماء لترويهم فأحرقهم”.
والحقيقة أن اليونان وأوروبا فى القرون المظلمة استاقوا الظلم والطغيان من الفلسفة والعقل والحركات الإصلاحية على يد الأكويني وألبرت الكبير.
لم تتمكن من إرساء قواعد ومعايير أخلاقية لتكشف وتتعامل بها وقت الحروب والأوبئة.
تعرف أيضا علي…طوفان الجوع فى غزة
وتشابه العصور الحديثة مع العصور الوسطى يعطى تلميحًا مقدمًا على أن الجذر الأخلاقي السلبي طغى على تلك المنظومة الحديثة فاحشة الظلم والبربرية. وتقاربًا مع رؤية الفيلسوف الكندي الشهير “تشازلز تايلور” ، أن الحداثة كاثوليكة مقنعة لما لها من نفس الخصائص والأساليب فى الإمعان الممنهج للتدمير الكلي لكل شيء ملزم ومنضبط وإبدال الدولة الثيوقراطية بدولة الليفاثنان التى تقضي على الفرد، وتبدده.
البقاء للأصلح والمستعمرين ولا عزاء للبقية…مرحبًا بك فى انتكاسة تجويع ونزع أنسنة العدو
للعصر الحديث فى حروب الجوع والتنكيل عدة أوجه منها الاستعمار الذى يمارس كل أنواع الموبقات والنهب والتجويع والبؤس واليأس لإحكام السيطرة على المستعمرين والمستغلين على سطح الأرض.
فحول الأوربيين العصر الحديث لمسرح من موبقات ومفاسد الأرض مجتمعة من نهب وسرقة واحتلال وإبادة جماعية وهندسة تامة للصراع بطريقة تغطي على أغراضه الحقيقية.
وأولى الإبادات الجماعية التى تمت فى العصر الحديث، مجاعات من يسمون بالهنود الحمر، وهم السكان الأصليين لأمريكا، وقد كانوا ضمنوا استقرار حياتهم بعدما اكتشفها المسلمين قبل الأنجليز بقرنين من الزمان فى سبق حقيقي للمسلمين. ومن المعروف أن الأمريكان الحاليين مزيج من أعراق وجنسيات مختلفة ومتعددة، لتحاول جاهدة تلاشي الماضي، ولكنها تصر أن تعود له بدعمها المطلق لذلك الكيان اللقيط المأزوم.
ففي كتاب “حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادات الجماعية”، يسرد اللغوي والمؤرخ وأستاذ الأدب العربي فى جامعة بوسطن الأمريكية “منير العكش” أن الإنجليز كانوا يعطون الفرد من السكان الأصليين أقل من العبد الأسود ب ٨ مرات، أي إنهم لا يتعمدون فقط إذلالهم بل تجويعهم الممنهج بغرض الإبادة و الإفناء الشامل.
واللافت للنظر ممارسات الإنجليز فى ذلك الوقت، فقد اتبعوا نفس السياسات المتبعة من الصهاينة من قتل جماعي وتهجير وتجويع وحصار وإبادة ثقافية، ومثل الأدباء الأمريكان آنذاك مرحلة مهمة جدًا فى الإبادة الثقافية عبر خلق جيل انجليزي الأصل هندي العرقية.
وبعدها بقرن ونصف، حينما نظر “داروين” للخرافة المشهورة المعروفة باسم التطور أو النشوء و الارتقاء، ارتبطت تطبيقات الخرافة دائمًا بسياسات التجويع و الإبادة والقتل الجماعي.
وقد استمر هذا الإرهاب قرابة ٤ قرون متواصلة تنتهك فيها القارة العجوز خطوط حمراء كبيرة وعظيمة سيترتب عليها تكوين عالم مشوه يفتقر لأبسط قدرات التفكير المنطقي والعقلاني.
ويكفي أن تعرف أن من قُتل جوعًا خلال الحرب العالمية الأولى فى حصار لينينجراد (١٩١٤_١٩١٧) نتيجة شح الموارد والأساسيات يتخطى ال ٥٠ ألف شخص معظمهم من النساء والأطفال، ولكن المجاعة لم تأتِ من الحرب، بل نتيجة لاستنزاف الموارد من الشيوعية التى تغني الغني لحد التخمة وتفقر الفقير تحت مسمى الملكية العامة وأنت المالك الأول والأخير بها.
ومن أبواب اللطف أن تلك الحادثة الأليمة كتبت بقلم أديب رفيع المستوى عالي القدر فى رواية بنفس اسم الحادثة للأديب الروسي “ألكسندر سمسولجين” الملقب فى بعض المقالات السياسية بأب بوتين الأدبي.
وعلى نفس المنوال، ذكرت الرواية الشهيرة كل شيء هادئ على الجانب الغربي للأديب والكاتب الألماني “فريديك زمليكه” الذى حاكى بكل تفصيل ممل وإغراق كفيل بالبكاء على غرب ألمانيا التى حوصرت وجوعت عقب الحرب العالمية الثانية، لدرجة وصلت بالأمهات لطحن أوراق الشجر والطوب لتنعيمه وإرضاعه لأطفالهم.
وما يجعل الدراما طاغية فى قصتهم الحقيقة مدى القحط والإذعان والإهانة المتعمدة لجعل ألمانيا لا تقوم لها قائمة مجددًا.
ويذيل الكاتب “دفيد شيلر” فى كتاب الأخلاقيات والحرب أن القتل بأي شكل فى الحرب لا يهم ليس فقط لما تمثله الحرب من شر ممنهج ومنظم هدفه الأول والأخير ممارسة كل أشكال الإخضاع منهاج حياة لقارات ودول طالما ادعت آسفة أنها مع الإنسان وهى ضده قلبًا وقالبًا.
طبقية الدول فى التجويع والحصار كارثة إنسانية قامت بها عقود من إعادة تركيب العالم بحسب رؤية ثنائية حقيرة وحقيقة، لجعل العالم فقط إما مكانًا للأقوياء أو غابة وسيرك للضعفاء لا يراعي فيه أي قيمة لحياته تنهد عنه مشقاته، فالحصار والإبادة استحقاق ناله من قاوم لإيصال رسالة مفادها أنك إن فكرت فى المقاومة والجهاد ونزع كرامتك المهدورة والمستلبة، فسيكون مصيرك هكذا مثل غزة مسفوحة الدم مدمرة مغلولة العنق لا تستطيع أن تنتفس غير بمفتاح مع سجان حرق نصف القفل.
وجناية الحرب الحالية لا تتوقف فقط على التجويع المستخدم ضد العزل، بل فى نفس الإشارة التى سترسلها لباقي شعوب العالم، فى أن دولهم ليست هنا لتبقى وتخلد ، أو بتعبير “ناتاشا ويتيلي امتهان” السيادة عبر اختراق القانون موت أولي للدولة، لإن الدول قائمة على القانون بشكل شبه كامل يقارب إلي الثورية. ومن الواضح أن كلام ويتلي تجسد فى غزة وآثارها على العالم عقب ال٧ من أكتوبر حتى الآن وتمدد هذا التغيير، بالتالي سيفعل آثر لعبة الديمنيو التى ما إن سقطت حجرة واحدة فإن البقية ستسقط تباعًا تحت تأثير قوة الدفع والتدافع الطبيعي والمنطقي فى سنة التاريخ المتكرر.
ويضع التجويع القانون الدولي أيضًا أمام تحدٍ حقيقي؛ إذ أنه أنشأ فى الأصل لحماية الدول الاستعمارية اللبيرالية تحت شعارات براقة لإكمال الهيمنة والسيطرة الكاملة على تلك المنظومة الفاسدة، ولحسن الحظ ودقة التسمية، أطلقت عليها الكاتبة “آسترا تايلور” بالعصر المائل والسائل فى الحاضر المؤسف.
يقطر نقاطًا دائمة ومستمرة ومستقبلة بحق لكل صرخة مظلومة تريد بحق الخروج من بوتقة النظام التجويعي المادي لحالة أكثر فطرية وإنسانية تمكنه فقط فى إكمال يومه وحياته بشكل طبيعي وغير مشروط وليس بشرط أن يدار من فساد وعطب لقتل وإبادة وتجويع ونزع أنسنة، كما أكد الباحث “ديفيد ميلر” أستاذ علم الاجتماع السياسي فى إحدى تغريداته، حينما قال أن القانون الدولي أُنتهك ودمرته إسرائيل بأفعالها المقدسة للعالم الغربي.