مقالات

الهيمنة الرقمية وتأثيراتها على سير العملية التعليمية

كتبت: ياسمين سمير صبرى

الأمية الرقمية في التعليم

 

إن التأثير المصمم لارتباط الرقمنة بالتعليم قلب تأثيره رأسًا على عقب لظهور ما يعرف ب “أمية الثقافة الرقمية”، وما زاد الأمر سوءًا هو إصابة الأساتذة بها، والأمر هنا لم يحتكر على الجامعات العربية فقط إنما قد مد يديه إلى تغطية الجامعات الغربية والشرقية خارج فضاء التعليم العالي العالمي، وهذا ما أشارت إليه بيانات وتقييمات هذه الجامعات من معاناتها لتلك الأزمة؛ وذلك يعود لعدة أسباب تتلخص في تلك السطور وهي:

 

• فقدان الرؤية الاستراتيجية لبناء التعليم والتربية والثقافة والإعلام بعصر الهوية الرقمية والذكاء الاصطناعي.

• الافتقار للإدارة الحازمة للتنفيذ المصب في العملية الرقمية التعليمية، وإن كانت ببعض الدول فإنها تظل هشة وغير صبورة.

• عدو وجود الحماس الكافي والتبلد المعيق للإنخراط في العصر الرقمي لدى مختلف القيادات.

• عدمية الخبراء المؤهلين تأهيلًا جادًا لإتمامها، فهناك قدرات لابد وأن يمتلكها تجسيدًا لخطة التعاون المشترك بين التعليم والرقمنة.

• هشاشة البنية التحتية المادية والتكنولوجية وكذلك المعرفية الضرورية لولادتها ونموها، إذ أن مثل هذه المشاريع تتطلب بنية تحتية قوية وسريعة متعددة الجوانب تستطيع تحمل عبئ الرقمنة وتداخلها مع مجال صعب التعامل كمجال التعليم ذاك.

• اختلاف هوية وثقافة المعلمين عن طلابهم، محدثًا بذلك سدًا منيع مانعًا وصول أي شكل من أشكال الاتصال لكلًا منهما؛ كون الطلاب الحاليين -جيل الألفية الجديد- قد ولد في زحمة الفضاء الرقمي بجميع استعراضاته المبهرجة من وسائل الاتصال والذكاء الاصطناعي المتدفقة كالشلال.

• أخيرًا وليس آخرًا، اختلاف الهوية الرقمية عن باقي الهويات الأخرى كونها سيالة في قارورة سريعة متعجلة التحول غير مستقرة على حالة واحدة لبعض الوقت، بعبارة أخرى، فإن الجيل الجديد يتفاعل مع الهوية الرقمية وطريقتها أسرع من الهويات الأخرى محدثًا نشاز حاد مما يزيد من إتساع الفجوة بين الفرقة أكثر كاسرة حلقة الوصل بين نظام التعليم التقليدي والرقمنة سريعة الولادة والتشكيل الذي بتضخمه يومًا بعد يوم ينتهي بمزيد من الاغتراب بين التلميذ والمعلم المجسدة في أمية الثقافة الرقمية، وأشكالها هي…تابع معنا…

 

كيف وفيما يتجسد داء أمية الثقافة الرقمية؟

 

إن أمية الثقافة الرقمية لهي منتشرة بين كافة الفئات إلا أن الشلل الحقيقي يحدث عندما تصاب الهيئة التعليمية بجميع كوادرها بمثل هذا الداء، فكيف لمن يعلموننا ويرمزون للعلم أن يتصفون بالأمية!

وهنا الكارثة، وتلك الكارثة تتجسد بأشكال لا حصر لها في السطور الآتية:

1- اختلاف زمن المعلم عن تلميذه:
وهنا أعنيه من الناحية التعليمية والتربوية وأيضًا الرقمية، وليس الوقت بمقصده الفيزيائي، إذ بكل زمان يشتاق له وجود ونمط محدد وكونه يختلف عن الإشتقاق الوجودي والنمطي لزمن الأساتذة فعالم اليوم ليس كالعالم اللاحق ليس كعالم الغد؛ لذلك نجد أغلب المعلمين يعيشون حالة من الاغتراب مع حاضرهم غير المألوف لهم مكسبهم ثقة مفرطة لماضيهم كما لو كان كل شيء بذلك الماضي “صواب أبدي”، وتلك القاعدة لا تسري على الجميع فنحن هنا نتكلم عن الأغلبية، فقد استطاع أغلب المعلمين مواكبة العصر الرقمي بكل ما فيه إلا أن هذا ليس كل شيء.

2- كما نعلم فلكل منظومة نمط ووجود يتناغم مع نظامية وإيقاع سيرها التي تفكر بمنطلق العقلانية الممزوجة بثقافتها ولغتها المتفردة وعندما يندمج نظامان متباعدان، التعليم والرقمنة، أحدهما يفرض عقلانيته ورؤيته للعالم بسرعة وتيرتها على الأخرى، مما يوقع الإنسان ضحية وتيرة سيرها مهما حاول التحكم الكامل بحضوره الهائل إلا أنه يرجع ب”خفي حنين” في نهاية المطاف، إلا إنه يدعى الإنسان إلى مواكبتها في سياق رؤية تتسع لاستيعاب مكاسبه وبناء أخلاقيات تقي الإنسان من ارتدادته المربكة والعاصفة، فكيف تدعونا إلى مواكبته ومن ناحية أخرى تبرهنون على عدمية قدرتنا على مواكبة وتيرتها!

3_ عدم وحدانية كلًا من لغة التلميذ والمعلم:
فنظام التعليم التقليدي الذي يتبعه الأستاذ في تعليم ومخاطبة الطلاب بما لا يتأقلم مع ثقافتهم واهتماماتهم المنصبة على الرقمنة وغيرها من تلك الأشياء التي يراها الأساتذة بلا قيمة، وكما يجب أن تكون فاللغة أداة ولا يمكن لها أن تكون محايدة وإن صارت كذلك تجد الحديث وإن كان هناك حديث من الأساس كما لو إنها فاقدين للسمع ويحدثان بعضهما باللغة المسموعة!

 

4- العملية التعليمية ليست كما يراها الكثيرون فهي عملية ديناميكية أكثر من كونها ميكانيكية، بمعنى أن المعلم كما يعلم التلميذ فكذلك التلميذ يعلم المعلم ويفيده، إذًا فكلًا منهما مكمل ومحفز له مولدًا لوعيه مكونًا لعقله سواءًا بطرح الأسئلة أو بابتكار الإجابات.

تعرف أيضا علي…التكنولوجيا الرقمية وتأثيرها على الوعي لدى الأطفال

5- تكميلًا للنقطة السابقة فإن أصبحت العملية التعليمية ديناميكية فإنها لا تكون تعليمية وقتها إلى أن تجدها قد فشلت بإلهام المعلم وتلميذه مما يضحل الفاعلية وأثرها المتبادل مؤثرًا بذلك على ذهنهما من الوهن والإحباط يصلان لحد القرف والغثيان.

6- تكرار كلام الأستاذ النمطي المقيت الذي لا يعبر بأي صلة عن اللغة وأسرارها التي ينجذب إليها التلاميذ، بحيث لا ينعكس عدم مقدرته على فهم طبيعة انفعالات ومشاعر التلاميذ ليصل الأمر لنظر وتعامل كلًا منهما مع العملية التعليمية كفرض ملزم بتأديته على شاكلته فيقوم بها المعلم من باب المعيشة، والتلميذ من باب التقاليد المكرسة، قاضيان بذلك على ثمراته المرجوة.

7- التقصير الناتج عن التعليم الفاشل يستطيع أن يكون سببًا لتفشي الإدمان الرقمي، أكثر نظرًا لما تفتقر إليه المنظومة التعليمية بإختلاف فئاتها ليلجأوا إلى تعويضها من العملية الرقمية التي تنتج وتسوق وتنوع كل المواد بجاذبية عالية مناسبة لإدراك جميع الفئات، ومن لا يصدق إلا بالأمثلة، فهناك فتاة قد بلغت عمر الثانية وتمضي أوقاتًا كثيرة لمشاهد الأفلام المخصصة لعمرها المبثة من “اليوتيوب”، المشكلة ليست هنا، إنما كونها تصرخ فازعة لحظة أن يمنعها أحد طالبًا منها الكف عن إدمانها وذلك؛ لفرط تذوقها لها وتفاعلها معها.

 

8- مع الأسف فالنظام التعليمي لا يهتم بإختلاف استعدادات الأطفال ومواهبهم وما يفرض من مواقعهم الطبقية المسؤولة عن تنشأتهم وتحديد شخصيتهم وما إلى ذلك، والتي من شأنها أن تُحدث إختلاف التكوين بين طالب وأخر، وذلك حسب الإمكانيات التي كانت متاحة لهم حينها، وهذا ما أثبتته دراسات أمريكا حول الأثر الذي تحدثه اللغة في تشكيل وعيهم ورؤيتهم للعالم لمجموعة من الأطفال مختلفي الطوابق (الفقيرة، الغنية) المعروفة ب”التفاوت الطبقي”، إذ أن وجود أبناء العوائل الغنية البالغي 4 أعوام استمعوا ل43 مليون كلمة، بينما أبناء العوائل الفقيرة من نفس العمر تجدهم استمعوا ل13مليون كلمة، وتلك الكلمات هي من تولد وتنضج الذهن؛ لذلك لابد على المنظمات التعليمية أن تأخذ بحسبانها هذا الإختلاف بمستوى التدارك لجميع الأطفال بإختلاف طبقاتهم وميولهم، وهذه هي وظيفة المنظمة التعليمية الحقيقية، آلا وهى كسر هذه الفجوة وإحداث أكثر قدر من التوافق والتأقلم بين جميع عناصر العملية التعليمية.

 

9- المأزق الذي وقع فيه أعضاء هيئة التدريس وذلك لمعايشتهم لعصر لا يشبه عصرهم السابق، عصر فائق السرعة ينسى كل من لا يتداركه إلى أن يصبح عبئًا عليه يصعب محوه، وأكثر المعلمين من يمرون بذلك؛ لإفتقارهم للوعي العميق به لسرعان ما يعجزون عن إستجابة متطلباته ورموزه ووسائله وأيضًا لغته، بالإضافة أن أغلبيتهم لا يمتلكون إرادة التمرد على ماضي شديد السطوة بوجدانهم مكونًا عمق لا وعي اتجاه الماضي لدى أغلبية المعلمين العالقين فيه.

 

10- إيقاع التحول الرقمي أسرع من إستجابة النظام التعليمي لإحتياجات الطلاب؛ مسببًا شلل للعملية التعليمية بجميع أعضائها الحيوية؛ وذلك لسرعة وتيرة التبدل في كيفية عمل الذهن أسرع من القدرة على تداركه والإنتقال بما يستجيب له ويتناغم معه في أنظمة التربية والتعليم، إلى أن تتسع الفجوة تدريجيًا بين طبيعة ذلك النظام واحتياجات الطلاب التي يعجز عن تلبيتها حتى النظام التعليمى بالبلدان المتقدمة، كما تحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي تحديثًا مستمرًا يتوافق مع أدائها، كذلك هو النظام التعليمي فإن لم يحدث تنتهي صلاحيته ويخرج من التداول، فالإنسان بطبيعة الحال لا يريد ما لا يرتبط ولا يعبر عنه.

11- ليس من الغرابة في أن تجد إهمالية أعضاء هيئة التدريس على التكوين الأكاديمي والثقافي في عصر لا يشبههم وقد فشل أكثرهم في تداركه، سواءًا لإختلاف طرائق وأدوات التكوين المعرفي والثقافي، أو حتى متلازمة إدمان التشدد الزمني التي يمرون بها بذلك العصر، مما يفقدهم أي حس بالحماس أو الحافز بإمتلاك كل ما هو جديد أو للقيام بما يلزم على الأقل، لنكمل هذا بالنقطة التالية.

12- عندما تنضب منابع الإلهام لدى المعلمين فإنهم يصابون بنوع من الملل القاتل الذي من شأنه سلبهم الطاقة اللازمة للتفاعل مع الطلاب إزاء عملية التواصل؛ فتراه يفتقد للحوافز العميقة لكلًا من التعليم المستمر وتتمية التكوين الأكاديمي والحرص على مواكبة الفضاء الرقمي، إلى أن يصاب بالقرف والإشمئزاز لتكراره كلامًا لا ينتج أية معرفة لدى المتلقي وكذلك لا يؤثر بأي شكل في بناء الوعي وتوسيع أحلامهم العلمية أو المخيلة لديهم.

جعلت الرقمنة من العملية التعليمية بناءًا هش يدمر بمهبات الريح بعدما كان الهدف الأساسى من المزج هو تقوية ذلك الأساس وليس العكس، وهذا إن دل فقد لمح أن هناك أشياء تخطط بسهولة لكن تكاد استحالتها نتيجة لاجتماع الكثير من العوامل المتضاربة أو التي يصعب التركيب بينها، وهذا هو الحال بالنسبة للرقمنة والتعليم، فتجمع كلًا من بهرجة وإغواء الرقمنة مع قداسة التعليم؛ أسهلت إثقال كاهل كلاهما بما لا يطيقه بحيث لا يبقى على قارب النجاة إلا واحد فقط فكيف يكون للقارب قائدان ولا يغرق!

وقد استطاعت الرقمنة إغراق التعليم في القاع لترتفع على حسابه، وذلك يرجع لإختلاف طبائع كلًا منهما، إن التعليم الذي يمارس بشكل غوغائي لا يمس التعليم بأي صلة وليس تعليم من الأساس بل من الخزي قول أنه تعليم أصلًا، فإن كان التعليم سيكسب الرقمية على حساب البنائية فبلاه من الأساس، وهنا يأتي الدور الصحيح الذى ينبغي لأي دولة مهما كانت أن تتبناه لنضع الأساس الصحيح وكل شيء سيسير كما يجب أن يكون.

 

المشكلة هنا ليست في التجربة الجديدة إنما في تأخر نتائج التحصيل لتلك التجربة التي قضت وقتًا أكثر مما تحتاج، وهذا ما يثبت وجود خلل ما، فهل تجدون الخطأ في أحد النظامين…أو من يديريهما…أم أن الخطأ في مزج العملية بحد ذاتها؟

 

تابعنا أيضا علي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock