مقالات

التوابع الكارثية للتحول الجذري للتدين الشعبي فى مصر

كتب: مصطفى نصار

“قومي استهدي بالله وأقلعي هدومك”…تحليل تطبيق مشهد فيلم الفرح على أرض الواقع

 

في فيلم “الفرح” الشهير، نصح الفنان “محمود الجندي” الراقصة بالاستعانة بالله ومن ثم خلع ملابسها للقيام بوظيفتها وهى الرقص فى الأفراح الشعبية، ليتحول هذا المشهد لأيقونة فى التضارب والتناقض والنفاق، ونفس المشهد فى فيلم “كباريه” للمشهد المصحوب بجملة “أسامحك أزاي بعد ما نجستلي الكباريه”، وأن الكباريه مكان طاهر، بحسب الفيلم لطلب الرزق والتوظيف للطبالين والراقصات من أجل فتح بيوتهن وتأمين أولادهن من الضياع والشتات.

 

 

غير أن هذا المشهد طُبق فى الواقع بعد عشرين سنة؛ حيث خرجت أم تدعي كلمتها وألمها وتنطح كذبًا وزورًا بأن ابنتها الصغرى ذات السابعة عشر عامًا “محترمة والحي كله يشهد بالإحترام والأدب لها”، والسؤال هنا يكمن فيما هو الإحترام الذى تقصده؟ ولماذا من الأصل دافعت عن ابنتها بعد وصلة رقص خليعة قامت بها على خشبة المسرح تارة وأمام زمرة من الشباب السكارى تحت تأثير الأغاني تارة أخرى بشكل يستنفر منه حتى الحيوانات أعزكم الله.

 

 

وفى هذا الصدد، يمكن ربط التدين الشعبي بهذا السياق؛ حيث إنه يؤسس لمجموعة من الأفكار التى تتصل بالدين ظاهريًا فقط كتمويه أو عدم معرفة من المرء، وتنطلق من مركز الكون وهو الله عز وجل، ليبنى عليها زمرة من المفاهيم المموجة المشحونة بالأهازيج والأراجيف طالما ألتزمت بالشكل الخارجي للمجتمع المحافظ، ولعل هذا الشكل ساق الناس للاعتراف بخرافة متعددة الأبعاد مقتضبة فى جملة قصيرة “إن هذا الشعب متدين بطبعه”.

 

والسؤال هنا كما يجب أن ينبغي فى هذا السياق ما التدين وكيف يكون تدينًا ؟ وما لوازمه ونواقضه؟ وكيف يكثف ويختزل التدين الموضوعي ليتحول للالتزام؟!

 

تعرف أيضا علي…من الدعشنة لمهاجمة الالتزام: تهجين تحليل فتيات التخرج لرقصهن

 

و بعد ذلك، يستطرد المفكر الأمريكي وعالم اجتماع الأديان “جوشوا غرين” فى كتابه قبائل أخلاقية، عن تلك الظاهرة التى ما إن خفتت لوهلة من الزمان لتحول المجتمع لحفنة من الخراف التى تسلك مسالك متعددة ومتشابكة، ظّانة بذلك سلوكها للطريق الأمثل، وفى حقيقة الأمر هى سالكة فى طرق منعزلة معزولة تأن بذلك عن خالقها مع الاحتفاظ بالمذهب المادي كأسلوب تفكير وحياة، وتجد أن الدين أصبح شاقًا على الأنفس بائسًا على الفرد فى مقابل تشغيل العقل والسلف والبلهوانيات من أجل حفنة من المال، وليس هذا بمانع أن المال غير ضروري، ولكن التضحية بالقيم من أجله للحصول عليه فى آخر المطاف فقدان لأبسط أخلاق الجاهلية.

 

 

ولهذا يذكر الكاتب الراحل “محمد قطب” فى كتاب مفاهيم ينبغي أن تصحح، أن الدين ليس مكانه فى القلب لإنه ببساطة سيلغي التكاليف والشعائر من حياتنا، وسيمحو هيبة القيم والمبادئ عند قلب الأخلاق فى المجتمع، وهذا ما يؤكده قول الكاتبة الصينية “بيونغ تشانج” إذا كنت تستمد نظامك الأخلاقي من المجتمع فإنه سينقلب رأسًا على عقب عند حلول كارثة فيه، وبالتأكيد إحدى هذه التجليات توجد وطبقت بحق عبر المشهد العبثي للأم والحي الذى شهد على إنحدار أخلاق راقصة لها باع واسع منه، وكما يقول المثل العربي “دل البعرة على البعير”.

 

 

التدين السائل المزيف: الرحمة ليست للجميع والمرءوة ليست تهورًا ولا حرصًا

 

 

فى الحادثة الأشهر لعام 2019 على المستوى الاجتماعي، قام الشاب “محمود البنا” بالدفاع عن الفتاة التى كان يقوم بها القاتل “راجح” الذى أنهى حياة البنا بمنتهى السرعة والوضوح؛ ليسقط سريعًا صريعًا على الأرض ويصبح أول شهيد لشهامة مفقودة، ولكن اللافت فى الحادثة ما حدث فى التركيبة الدينية الشعبية للمجتمع الذى صفت شهامته ومرءوته بحجة التأمين الذاتي، وتحت مظلة أكبر تسمى بالتأقلم السريع تحت أي وضع.

 

إثارة التأقلم السريع بصورة متكررة أفقد الناس شبابها وعمرها وعقلها وقبلوا سياسيات الإذلال التى أسمتها المؤرخة “أوتا فيفرات” بالمهانة المحظوظة، ويتمحور حظها حول ديمومة جاهزيتها فى عقول الناس من دون وازع ديني أو موجه أو خطبة تحيي القلوب من سباتها العميق.

 

وإنما اللحظة الحقيقية التى خرج منها التدين من بوتقة الإسلام لعفن العقل اللامبالي والمتنازل والمتأقلم بصيغ عديدة منذ عصر محمد علي باشا الذى أهان المصريين وفعل فيهم الأعاجيب؛ فيكفيك إنه من صور التأقلم أن الابن كان يقتل أبيه لمجرد أمر ينفذ، حتى قال “كينيث كونو” مستعجبًا أن التغيير الذى جرى على يد محمد علي جذري بشكل يثير الفزع، وبالطبع تغيير الاحتلال الفرنسي لمصر ليس له أي وجه مقارنة من الأساس مع الباشا. فمسخ مصر وتدينها بطريقة جعلت التدين أبعد ما يكون عن الدين الحق وقيمه.

 

أسهم التدين الجديد فى عهد محمد علي لما نسميه فى علم الاجتماع الديني بالتدين الشعبي الموازي، أي ما يوازي التدين بل ويناقضه.

 

 

ولذا كتب “جاك لاكان” عن انتصار الدين إلا أنه علم قيمة ومكانة الدين لدى “فرويد” الملحد؛ فلاكان برغم فجاجته فى النظريات المتعلقة بالتدين إلا أنه لم يحرف التدين النصراني أو اليهودي الأصيل ليس لإنه يحترمه أو يكن له التقدير،. على الإطلاق، وإنما كما قال “زيجمونت باومان” الملحد نفسه أن الدين يمنع المرء من العودة بالزمن. والرؤية الشعبية للذات الإلهية دون تطبيق شعائره منفذ ونتيجته الطبيعية الوحيدة التى نواجهها حاليًا هى قبول أشكال الاستهجان من الرقص فى حفلات التخرج والأفراح وصلاة العيد المختلطة والفتاة المتبرجة التى يحلف حيها كذبًا والسحت المأكول، وغاب عن كل هذا للأسف الشديد الجماعات الإسلامية التى كانت -وإن تحفظنا عليها- مانع من تحول المجتمع لمجتمع مشوه بهائمي يستهلك إسلام السوق بتعبير الباحث “باتريك هايني”.

 

 

وغيم غيابها كذلك نوعًا من توالي الإلحاد والشبهات والموجات التشككية على المجتمع والشباب تحديدًا ليتحولوا لجزر منعزلة تحركهم اللذة الإبيقورية دون تذكر دين إلا عند الكوارث المحقة أو الأوبئة الفتاكة، ليبتكروا بذلك نظرية كاملة تستبدل الدين كما أكد الفيلسوف الإنجليزي الشهير “أنطوني كيلجونجوود”، والأدهى من هذا كله تغيير كلي وشامل لحدود المسموح والممنوع فى العبادة والأعراف عن طريق آليات وإجراءات مسمومة للتأقلم مثل قبول الوظائف ذات الدخول المشبوهة وتغيير المفاهيم والمصطلحات ليصير العرض المجاني المغلق المحدود لأفراد عائلة المرء من الإناث مباحًا مسموحًا فى ليلتين باعتبار أنهم ليالي العمر.

 

كاد أن يقتل الصحابي “سعد بن عبادة” أحدهم لمجرد رفع ثوب زوجته فى الشارع، وقامت غزوة بني قيقاع لمجرد تحرش.

 

 

هدم التدين الشعبي حدود المسموح والممنوع كما استخلص الباحث “عصام فوزي” تلك النتيجة وقوضها لصالح المصلحة؛ فتحول بذلك التدين أشبه بالفردي أو الفرداني..

 

تابعنا أيضا علي…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock