كتب: مصطفى نصار
الاستبداد والعنف والحرب…مثلث الدمار الذي دمر دول متقدمة
في أحد تصريحاته، أشار رئيس الوزراء المصري “مصطفى مدبولي” إلى احتمالية تحول اقتصاد الدولة لحالة من اقتصاد الحرب، حال اشتعال حرب إقليمية مع إيران ضد إسرائيل.
الأمر الذي أثار الجدل واللغط في معنى اقتصاد الحرب وإمكانية تطبيقه وتوابعه الكارثية التي أنهت دولًا وأنظمة أكثر صلابة من دول رخوة هشة نامية.
ولإيضاح الصورة، فإن أوروبا والولايات المتحدة، أكثر من طبقه على شعوبهم في الأزمات وأوقات الحروب الصعبة، مثل الحربين الأولى والثانية، ولكن بنقيض التصور المخادع عنه أنه ينحصر اقتصاديًا في توفير السلع والخدمات المناسبة فقط، دون مراعاة لأي ضوابط اقتصادية مثل الانتاج والصناعة والتجارة النشطة، والكثير من الإجراءات والمتطلبات الأساسية المفترض توفرها من الأصل.
طبقته الدول الأوربية في الحربين العالمتين الأولى والثانية حتى قال مؤرخ الحروب الشهير “جون كيغان” عن تلك الإجراءات أنها جعلت أوروبا تدفع ثمنها حتى الآن، وتلك نقطة جوهرية لفهم الفرق بين اقتصادية الحروب لدى الأوروبيين والأمريكان . ف”فرانكلين روزفيلت” حينما طبقه على الأمريكان إبان الحرب العالمية الثانية دفع بضخ حزم من القرارات المعوضة للخسائر الاقتصادية المتوقعة من تفعيل تلك الإجراءات التي تفعلها الدولة والتي تتمدد لتشمل تقشفًا على كافة المستويات بدءًا من المؤسسات مرورًا بالقطاعات المختلفة وانتهاءً بالمشاريع الترفيهية والخاصة بالبنية التحتية.
وفي المقابل، تطبيق اقتصاد الحرب في دول أخرى أتي بنتائج عكسية لهيمنية وغطرسة الاستبداد السياسي مثل أسبانيا وإيطاليا التي انتهت مسيرتي “فرانكو” و”موسوليني” بالقتل والإعدامات الميدانية لمعاونيهم وحاشيتهم الفاسدة التي اغنيت نفسها بفعل اقتصاد الحرب الذي تحول لاقتصاد تقشفي يفقر الناس ويجعلهم أكثر عنفًا ودموية، تشرف على ممارسة العنف لا كخيار مطروح بل بصفته من أولى القرارات الشعبية المطروحة للتعامل مع حكوماتهم الفاشية والفاسدة التي اتخذت من الحرب ستارًا للإفقار الممنهج والإبادة الاقتصادية البطئية لتلك الشعوب.
ولعل هذا ما أشار إليه الباحثين “ميجيل ستانمو” و”إيلنا انريكيز” في كتابهما الحرب والمجتمع، حينما وصفا تلك الإجراءات بأنها غير مدروسة ومندفعة وفي بعض الأحيان تدفع المجتمع ذاته، إن كان قويًا، لرد فعل قوي لا يخرج بين دفتي الغضب والعنف.
ومن هنا، تتحقق أطروحة “جورجيو أغامبين” الذى يعتبر الحرب بشتى أنواعها، وعلى رأسها الأهلية، فيها نظام انتحار ينخر نفسه ليجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما إما التغيير أو التخريب المتسارع.
وفي سياق متصل، يتطرق الباحث الأيرلندي المرموق “سينشيا ماليشربيش” في كتابه سوسيولجية الحرب والعنف، بشكل دراماتيكي وجذري، لموضوع أسماه اجتماعية العنف التي تتصل مباشرة بالاستبداد والطغيان والفساد ليخرج بذلك أن الاقتصاد والاجتماع الحربي سياسي بالدرجة الأولى هيكليًا وتطبيقًا؛ مما يزيد احتمالية زيادة وتيرة العنف والجريمة جاعلًا المجتمع بذلك في حالة حرب حتى مع غياب أجوائها الأساسية، لسبب بسيط، وهو أن الحرب غير متصلة بالظروف والملابسات الخارجية بقدر ارتباطها الوثيق بالاستبداد والعنف الداخلي بكافة أنواعه وهذا ما جعل أسبانيا وإيطاليا ينهاران سياسيًا واجتماعيًا في حين استقرار دول الحلفاء. لذا فإن التخريب ينتج من تطبيق المثلث التدميري من العنف والاستبداد الداخلي والحرب.
تعرف أيضا علي…“الأخلاق الاقتصادية عند الغزالي: رؤية طامحة لاقتصاد أخلاقي”
حرب ضد المصريين…تطبيق اقتصاد الحرب بكافة توابعه الكارثية في العشرية الأخيرة
في مصر طُبقَ اقتصاد حرب بكل ما يحمله التعبير من معاني ودلالات، جعلت بها الحياة تحيل لصورة المأساة الكاملة التي تنكشف أبعادها عبر عديد من الإجراءات الصارمة منذ نوفمبر 2015.
تكثيف تلك الإجراءات منذ أول تعويم للجنيه يحرم ويسارع عملية التقشف الأقصى الذي يتخفف فيه الفرد من أساسيات الحياة من مأكل ومشرب وملبس، مما يترتب عليه زيادة معدلات الفقر والفقر المدقع.
ومنذ تأسيس الجمهورية الجديدة، أسست معها قواعد لاقتصاد الحرب بإجراءات متكاملة تشمل رفع الدعم وتخصيصه للمجهود الحربي والتسليح، ودخول الجيش في المجالات الاقتصادية المتنوعة من تعليم وصحة وصناعة وزراعة، وتقليل مخصصات القطاعين العام والخاص، وتقليل مستحقات الخدمات المدنية من التموين لاستحقاقات العمال والرواتب، فتنفصل التصريحات بالحد الأدنى للأجور عن حقيقتيها، وواقعها الانفصامي، الذي طبق بوضوح حين تخطت مرتبات العمال والأطباء والموظفين الحكوميين حد ال3000 جنيه و4700 جنيه في أفضل الأحوال.
وقد ذكر الأديب السوري “ممدوح عدوان” في كتاب “حيوانية الإنسان” تشريح للتعذيب أن ينزل بالإنسان لدرجة الحيوان المهان، لكنه غفل أو تغافل معتمدًا أن الاقتصاد والسياسة أحد ركائز هذا التعذيب، وذلك ما تحدث عنه علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية مثل “ديفيد جريبر” و”مارشال سالينز”، واجماليًا التعذيب الاقتصادي في حالتنا هنا هو الحرب.
وأما فيما يتعلق بالدليل الدامغ الذي يعطي خلفية قوية عن نتائج تلك الحرب الاقتصادية على المصريين، زيادة معدلات الفقر بنسبة تقارب تقارير الخارج بل تزيد عن 70% أي بمعنى آخر أن ثلاث أرباع الشعب يقعون على حافة خط الفقر أو سقطوا تحته، وبما لا يتعدى نسبة 20% منهم يقعون تحت الفقر المدقع الذي لا يجدون معه حتى مستوى يقارب طعام كلاب وحيوانات الأغنياء الناهبين لهم.
و هو ما عبرت عنه الأفلام قديمًا بأغنياء الحرب، وهي زمرة من البلطجية وقطاع الطرق وسماسرة الحروب، ويكتفي فقط نموذج ترقي نماذج مثل مرسي في فيلم “إسكندرية ليه”، لكشف العلاقة بين الغنى والسرقة والنهب والصعود المريب والمشبوه لبعض الأغنياء، ممثلين بذلك تهديد للأمن القومي للمجتمع وللدولة، مما قد يعيد السؤال نفسه المطروح على لسان الباحثة وأستاذة علم الاجتماع “آجا سرجوجوم” حول علم اجتماع العسكرية “هل يكون عدم وجود توافق واقعي على المسؤوليات والواجبات بين المدني والعسكري مهددًا بانهيار الدول؟”
وتبدو إثبات الإجابة ضمن السياق السابق حقيقة أو على أرجح تقدير مسألة وقت فقط ليس إلا.
بين اقتصادين لنفس النكسة… لمن التهلكة اليوم ؟!
في أعقاب نكسة يونيو 1967، كان الدكتور المصري “خالد إكرام” في جامعة تكساس يحاضر عن الاقتصاد المصري، فحينها فقط جاءته فكرة تأليف كتاب عن اقتصاد مصر، وبالفعل، مكث بعد انتصار أكتوبر على كتابة مؤلف علمي رصين عن الاقتصاد المصري حتى عام 1981.
وأكد فيه أنه في الفترة الممتدة بين النكسة وحرب أكتوبر، مدة 6 سنوات كاملة، طبقت فيها اقتصاد الحرب بكافة أركانه ومعانيه لهدف معين يتمثل في تسليح ودعم الجيش بعد تعرض البلاد لأكبر نكبة في تاريخ البلاد ذات آثار ممتدة حتى الآن، متمثلة في الاحتلال الفعلي لأم الرشراش والتطبيع على سبيل المثال لا الحصر.
وفي أيامنا الحالية، وبعد 57 عام من نكبتنا الأولى، تظهر نكبة ثانية تتشكل في إتخاذ اقتصاد الحرب كنمط حياة وسط حالة رعب وجبن والحرص على حياة، وليست الحياة!
وفي هذا المناخ المتشاحن، يظل سؤال النهاية معلقًا سواء نهاية الأزمة الاقتصادية واقتصاد الحرب دون إطلاق رصاصة واحدة على أي عدو، أو مساندة شكلية، أو مشاغلة على سبيل الدعم التعاطفي والمعنوي، ونهاية الخنوع والخضوع الذي أكدا “المقريزي” و”ابن خلدون” أنهما سبب المجاعة والشدة المستنصرية بجانب الفشل والفساد السياسي، أم تبقى الكوارث والصدمات الكبرى مصدر إفاقة وحيد، بل وأوحد نضطر بعدها لإعمار مالطا بعد خرابها الحتمي.